من دمشق إلى غزة.. قراءة تركية في خطاب خالد مشعل وسقوط المسلّمات الإقليمية

ترك برس تناول مقال للكاتب والإعلامي التركي طه قلينتش، قراءة تحليلية معمّقة لمقابلة خالد مشعل الأخيرة مع قناة الجزيرة، بوصفها خطابًا سياسيًا يعكس رؤية مختلفة داخل حركة حماس لمسار المقاومة الفلسطينية وموقعها في التحولات الإقليمية الجارية. يركّز الكاتب على تأكيد مشعل مبدأ الاستقلالية عن المحاور، ورفض الوصاية الخارجية على القرار الفلسطيني، إلى جانب موقفه الواضح من الثورة السورية وسقوط نظام الأسد. كما يناقش التباينات التاريخية داخل حماس بشأن العلاقة مع إيران. ويقدّم مشعل كنموذج نادر لـ«العقل الاستراتيجي» في السياسة العربية، القادر على قراءة الميدان دون الارتهان للتحالفات، في زمن تتراجع فيه السياسة لصالح الاصطفافات الصلبة. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق: أجرى خالد مشعل، رئيس حركة حماس في الخارج، مؤخراً مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة استغرقت 52 دقيقة. وبجديّته المعهودة، أجاب مشعل عن الأسئلة المطروحة إجاباتٍ مقنعة ومفصّلة، وتضمّنت تصريحاته عددًا كبيرًا من النقاط الجديرة بتسليط الضوء عليها. غير أنّ تقييماته لوضع المقاومة الفلسطينية اليوم، وتعليقاته المتصلة بسوريا على وجه الخصوص، تنطوي على عناصر تستحق إبرازًا خاصًا. وخلاصة ما قاله مشعل بشأن الوضع الراهن للمقاومة الفلسطينية ما يلي: "إن القضية الفلسطينية اليوم أكثر وضوحًا وشهرة من أي وقت مضى في تاريخها. لقد كانت القضية الفلسطينية في السابق حبيسة الأدراج، أما الآن فهي على الطاولة. لقد تضررت سمعة إسرائيل بشدة على الصعيد العالمي. وتبددت كل ما أنفقته من جهود واستثمارات في الدعاية والإعلام لصناعة صورتها. فالجميع الآن ينتقد الصهاينة على كل المنصات. وقد تبنت الأجيال الشابة في الأمة الإسلامية القضية الفلسطينية مجددا. صحيح أن الثمن كان باهظاً. لكن يجب ألا ننسى: الحرية دائماً ثمنها باهظ." لدينا مطلبان في المرحلة القادمة: 1) تحرك دولي لإعادة إعمار غزة وتلبية الاحتياجات العاجلة لإيواء الناس، 2) عدم وجود تدخلات خارجية في فلسطين؛ وأن يدير الفلسطينيون وحدهم شؤون فلسطين." إن تأكيد مشعل على "عدم التدخل الخارجي في فلسطين، وأن تكون فلسطين تحت الحكم الفلسطيني الخالص" هو تصريح يستهدف بوضوح جهات فاعلة معينة داخل العالم العربي. فليس سراً أن بعض الدول تتدخل بشكل مباشر في السياسة الفلسطينية وتعمل على صياغة حلول تستثني حماس. وعندما طُرح عليه السؤال التالي: «خلال العامين الماضيين شهدت منطقتنا تطورات متسارعة ومذهلة؛ تراجع نفوذ إيران، وتلقّى حزب الله ضرباتٍ قاسية، وسقط نظام بشار الأسد في سوريا، وتولّت إدارة جديدة الحكم. فما هو موقف حماس في خضم هذه الأحداث؟" — كان جواب مشعل، وفق التعبير الإعلامي، هو لقطة المقابلة الأبرز، حيث قال: "لقد تلقت حماس، في مسيرتها الطويلة، العون والدعم من كافة الدول العربية والإسلامية. وقد تفاوتت كمية هذا الدعم ونوعه وأبعاده بمرور الوقت. إن أبواب حماس مفتوحة للجميع، وهي تقيم علاقات مع الجميع، ونحن مدينون بالشكر لكل من وقف إلى جانبنا حتى الآن. غير أنّ حماس لم تُسلِّم نفسها بالكامل لأي محور، ولم تُدر ظهرها لبقية الأطراف في العالمين العربي والإسلامي. نحن نحترم جميع الدول ولا نتدخل في شؤونها الداخلية. ومنذ البداية، اعتمدت حماس على نفسها فقط. ولهذا، فإن تراجع قوة أيٍّ من داعميها لا يفضي إلى انهيار الحركة." "كانت لدينا علاقات مع النظام السابق في سوريا، ولكن مع اندلاع الأزمة (بالتزامن مع الربيع العربي)، نشأ خلاف بيننا فغادرنا سوريا. نحن لا ننتمي لأي جبهة ولا نخضع لأي طرف، بل نتحرك باستقلالية تامة. لدينا قواعدنا ومبادئنا وأسسنا الخاصة. إننا سعداء حقاً وبصدق بالحرية التي نالها الشعب السوري اليوم، وجميع الشعوب في العالم العربي تستحق أن تنال حريتها وكرامتها بنفس القدر." لطالما كان خالد مشعل قائداً داخل حماس حافظ على موقف مستقل تجاه القضية السورية. فهو من اتخذ شخصياً قرار مغادرة الحركة لدمشق عقب بدء نظام البعث في مهاجمة المدنيين. كما رأيناه في زيارته الشهيرة لغزة عام 2012 يلوح بعلم الثورة السورية أمام عشرات الآلاف. وبعد ذلك، برز كاسم يدافع باستمرار عن التوازن في العلاقات مع إيران. وبينما كانت شخصيات مثل إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، وخليل الحية ينظرون إلى العلاقات مع إيران كـ "تحالف استراتيجي" و"وحدة مصير"، مال مشعل إلى محور تركيا وقطر. بل إنه هُمّش وتم إقصاؤه لهذا السبب تحديداً. وكان وجود نوع من الانقسام داخل حماس في هذا الشأن حقيقةً يلحظها بسهولة كل من يتابع الحركة عن كثب. ويُعَدّ خالد مشعل واحدًا من القادة السياسيين القلائل في العالم العربي الذين يمتلكون "عقلًا استراتيجيًا". فطريقة استيعابه للأحداث، والمقترحات التي يقدّمها، تُظهر أنّه لا يغفل عن الوقائع الميدانية وما يجري على الأرض. غير أنّ المناخ السائد في الشرق الأوسط اليوم، للأسف، لا يتيح الإفادة من رصيد مشعل وخبرته. وليتَه يدوّن مذكّراته بتفصيل، ويوثق شهادته على هذه المرحلة من التاريخ.