صرخة الأندلس الصامتة: تهجير الموريسكيين

محمد طه تشيفتشي - موقع "فوكوس بلس" - ترجمة ترك برس إن النهاية المأساوية لأرض الأندلس، ذلك الجرح العميق في وجداننا، ليست سوى عقدة حزن نُسجت في نول القرون. جرحٌ يؤلم مع كل لمسة، وصرخة صامتة تعتصر القلب كلما استُحضرت في الذاكرة. فرياح الزمان تهبّ على قلوبنا نحن المسلمين كعاصفة كئيبة، بينما الأراضي التي كانت يومًا ترتجف تحت قباب السماء بنداءات الأذان، ارتدت اليوم درع الصمت البارد. تلك الأدعية الشجية التي كانت تتردد في سماوات الأندلس، دُفنت في عزلة الليالي، وحلّ الحداد العميق محلّ مجالس العلم التي كانت تصدح بالحياة. إن الآهات المكتومة للمسلمين الأندلسيين الذين فُرضت عليهم المسيحية قسرًا ما تزال تتردد في صفحات التاريخ المعتمة. أولئك الذين عُرفوا لاحقًا باسم «الموريسكيين»، حَمَلة هذا الألم الصامت، تُركوا في مواجهة قدر قاسٍ يهدد إيمانهم وهويتهم معًا. وقد كُتب هذا المقال لتتبع ملامح مقاومتهم الوقورة الصامتة، وملحمتهم المنسوجة من خيوط المنفى. من العصر الذهبي إلى الظلام… لم تكن الأندلس مجرد جزء من الحضارة الإسلامية، بل كانت أيضًا صرحًا فريدًا للعلم والفن والتسامح في تاريخ الإنسانية. فمنذ قدوم الأمويين إلى هذه الديار في القرن الثامن، انطلقت حقبة ذهبية امتدت قرونًا، تشكّلت فيها الحياة بالعلم المتدفق من المدارس، وبالموسيقى التي فاضت من القصور، وبالفن الذي وُلد في الورش. ففي قرطبة قُرئت نصوص الفلسفة العربية، وفي غرناطة شُيّدت روائع معمارية خالدة، وفي طليطلة اجتمع علماء مسلمون ويهود ومسيحيون على مائدة واحدة. ولم يغيّر هذا المناخ من الأخوّة والمعرفة مصير الأندلس وحدها، بل أسهم أيضًا في صياغة مستقبل أوروبا. غير أنّه لا حضارة خالدة. ففي أواخر القرن الخامس عشر، تعاظمت حركة الاسترداد المسيحية (الريكونكويستا) في شبه الجزيرة الإيبيرية، ومع سقوط غرناطة عام 1492، أفسحت تلك الحقبة المشرقة المجال لظلام عميق. لم يكن ذلك سقوط مدينة فحسب، بل انهيار حضارة بأكملها. ومن أكثر الأعمال الفنية تجسيدًا لهذه اللحظة المأساوية لوحة الفنان فرانسيسكو براديّا إي أورتيث الشهيرة تسليم غرناطة. ففي اللوحة يظهر آخر أمراء غرناطة، أبو عبد الله الصغير، على صهوة جواد أسود، يحمل مفاتيح المدينة بين يديه. في عينيه وداع حزين لحضارة عمرها ألف عام، وعلى كتفيه ثقل التاريخ. وأمامه يقف الملك والملكة الكاثوليكيان، في هيئة المنتصر القاسي. إنها لوحة لا ترسم الاستسلام، بل تصوّر صرخة صامتة. أرواح أُكرهت على التعميد بعد عام 1492، ورغم أن الموريسكيين اعتنقوا المسيحية ظاهريًا، فإنهم ظلوا متمسكين بالإسلام في قلوبهم. لكن هذا الإخلاص عُدّ تهديدًا للتاج الإسباني. ففي عام 1502 في قشتالة، ثم عام 1526 في أراغون، فُرضت سياسات التحوّل الديني القسري، لتوجّه ضربة أخرى لجذورهم الثقافية. حُرّم التحدث بالعربية، وارتداء الأزياء التقليدية، وإقامة الشعائر الإسلامية. أصبح كل واحد منهم غريبًا في وطنه، وسجين صمت في بيته. ومع تصاعد القمع، أخذ نور الأمل يخبو في العيون. وبين عامي 1609 و1614، صدر أمر الملك فيليب الثالث ببدء التهجير الجماعي. فاقتُلع نحو 300 ألف موريسكي من أرض مولدهم، ورُحّلوا قسرًا إلى شمال أفريقيا. لم تكن تلك الرحلة مجرد فراق جغرافي أو عبور حدود، بل كانت اقتلاعًا من الذاكرة، ومن التاريخ، ومن القبور، ومن الأذان، ومن الأعياد. أمهات يبكين في الموانئ، وأطفال يرمقون الشاطئ للمرة الأخيرة، وشيوخ يغادرون دون وداع لما تركوه خلفهم. مات بعضهم في الطريق، واضطر من نجا إلى البحث عن الانتماء في أراضٍ جديدة. إن الألم الذي تحمّله الموريسكيون يُعد وصمة سوداء في سجلّ الإنسانية. فقضيتهم ليست شأنًا إسلاميًا فحسب، بل جرحًا غائرًا في ضمير البشر جميعًا. فهذا التهجير لم يكن مجرد انتقال للأجساد، بل كان إسكاتًا لحضارة، ومحاولة لمحو ذاكرة شعب. طرق الهجرة المغمورة بالألم، والمقابر التي ما تزال تئن مع الريح، والمدن التي اندثرت، كلها تهمس لنا بالرسالة ذاتها: «لا تنسَ». قد لا يعود صوت الأذان ليصدح في سماء الأندلس، لكن مقاومة الموريسكيين الوقورة تظل نورًا متوهجًا في أعماق التاريخ. إن إحياء ذكراهم، والدفاع عن القيم التي ناضلوا من أجلها، ليس واجبًا تاريخيًا فحسب، بل مسؤولية إنسانية كذلك. فالموريسكيون، بدعواتهم الصامتة، ودموعهم، وصبرهم الشامخ، ما زالوا بيننا. وتهجيرهم ليس حادثة من الماضي فقط، بل رسالة عِبرة كُتبت للحاضر والمستقبل. ومن هنا، فإن رواية قصتهم، وكتابتها، ونقلها من قلب إلى قلب، هي من أقدس واجباتنا. ففي مواجهة ظلام الظلم، سيظل إيمانهم وصبرهم مصباحًا لا ينطفئ على وجه الأرض.