لم يكن ذلك الصباح الماطر، عند الساعة الخامسة والنصف فجرًا، حدثًا استثنائيًا في ظاهره، لكنه كان كاشفًا لمعنى عميق كثيرًا ما نغفله في زحام الحياة: النجاح لا يقوم على توفر الظروف المثالية، بل على القدرة على استخدام البدائل المتاحة بذكاء وهدوء. استيقظت لأداء صلاة الفجر، فوجدت التيار الكهربائي مقطوعًا. لم يكن الظلام عائقًا، لأن البديل كان حاضرًا؛ ضوء المصباح في الهاتف، الذي أدى الغاية وفتح الطريق. وحين هممت بالخروج إلى المسجد وسط المطر، كانت السيارة في الكراج، وبابه يعمل بالكهرباء. مرة أخرى، لم يكن الانقطاع سببًا للتوقف، فآلية التحويل إلى الوضع اليدوي كانت البديل العملي الذي أعاد الحركة إلى مسارها الطبيعي. فُتح الباب، وانطلقت السيارة، وتحقق الهدف. عدت إلى المنزل وما زال التيار الكهربائي مقطوعًا. أبلغت شركة الكهرباء، ثم رغبت في تحضير كوب القهوة بالحليب لي ولزوجتي، كطقس صباحي يومي لا أستغني عنه. سخان الكهرباء متوقف، فكان البديل غلي الماء على فرن الغاز باستخدام إبريق الشاي التقليدي. لكن حتى هذا الخيار لم يكن جاهزًا؛ فشعلة الفرن تعمل بالكهرباء. هنا ظهر البديل الثالث: المشعل اليدوي الذي يعمل بالغاز. اشتعلت النار، غلا الماء، وحضَّرت القهوة، وعاد الدفء إلى تفاصيل الصباح. قد تبدو هذه الوقائع عادية وروتينية، لكنها تحمل في جوهرها درسًا مركزيًا في فلسفة الحياة والقيادة والإدارة العامة وصناعة السياسات الوطنية معًا: البديل ليس حلًا طارئًا، بل نمط تفكير. فالعقل الذي يتوقف عند أول عائق هو عقل أسير الخيار الواحد، أما العقل القادر على الانتقال السلس بين الخيارات فهو عقل مؤهل للنجاح. في كل موقف من ذلك الصباح، لم يكن السؤال: "لماذا تعطلت الأمور؟" بل: "ما البديل المتاح الآن؟". هذا التحول البسيط في طريقة التفكير هو ذاته الفاصل بين إدارة ناجحة وأخرى مأزومة، وبين قيادة فاعلة وأخرى أسيرة ردود الفعل. على مستوى الفرد، فإن امتلاك مهارة استخدام البدائل يعني التحرر من ثقافة التذمر، وبناء شخصية مرنة لا تُهزم بسهولة. الفرد الناجح لا يسأل: " لماذا تعطّل الطريق؟ " بل يسأل: "ما الطريق الآخر؟". أما في القيادة، فإن البدائل ليست مجرد أدوات، بل انعكاس لطبيعة القائد ذاته. القائد الذي لا يرى إلا خيارًا واحدًا يفرضه على الجميع، غالبًا ما يقود إلى الانسداد. بينما القائد الناجح هو من يُبقي الباب مفتوحًا دائمًا أمام خيارات متعددة، ويمنح فريقه الثقة للتفكير خارج القوالب الجامدة. القيادة الحقيقية لا تُختبر حين تسير الأمور كما خُطط لها، بل حين يتعطل الخيار الأول وتُستدعى البدائل. القيادة هنا ليست في امتلاك الإجابة الجاهزة، بل في القدرة على طرح السؤال الصحيح في اللحظة الحرجة: ما الذي يمكن فعله الآن؟. وعلى مستوى المؤسسة، تصبح البدائل معيارًا للنضج الإداري. المؤسسات التي تستمر وتنجح هي التي تخطط للاحتمالات، وتبني أنظمتها على التعدد لا الاحتكار، وعلى المرونة لا الجمود. أما المؤسسات التي تعتمد خيارًا واحدًا، فإن أول أزمة كفيلة بإخراجها من المشهد. وعلى مستوى السياسات الوطنية، يصبح فن استخدام البدائل مسألة أمن واستقرار وتنمية. الدول التي تبني سياساتها على خيار اقتصادي واحد، أو مصدر طاقة واحد، أو تحالف واحد، تضع نفسها أمام مخاطر استراتيجية جسيمة. في المقابل، فإن تنويع الخيارات في الطاقة، والغذاء، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، والتعليم، هو تعبير عن نضج الدولة وقدرتها على حماية مصالحها في عالم متقلب. في السلم والحرب، في الاقتصاد والسياسة، الدول التي تمتلك بدائل هي الدول التي تمتلك قرارها. لقد أثبتت الأزمات العالمية المتلاحقة أن الدول التي امتلكت سيناريوهات بديلة كانت الأقدر على الصمود، والأسرع في التعافي، والأكثر حفاظًا على تماسكها الداخلي. فالبدائل في السياسات العامة ليست اعترافًا بالفشل، بل تحصينٌ مسبقٌ ضدّه. الخلاصة التي تقدمها هذا التجربة الشخصية البسيطة لذك الصباح تؤكد حقيقة إدارية وسياسية كبرى: غياب البدائل هو الخطر الحقيقي، لا الأزمة نفسها. فالأزمات جزء من الحياة، أما الفشل فهو نتيجة التفكير أحادي المسار. وعليه، فإن الإدارة العامة الرشيدة، والقيادة الواعية، والسياسات الوطنية المستقرة، تشترك جميعها في مبدأ واحد: لا خيار بلا بديل، ولا قرار بلا سيناريو آخر. وهنا، تحديدًا، يولد الفرق بين دولة تقود ودولة تُقاد. .