كتب زياد فرحان المجالي - لم يكن إعلان وقف إطلاق النار نهاية حقيقية للحرب على غزة، بل كان انتقالًا هادئًا إلى شكل آخر من أشكالها، أقل ضجيجًا وأكثر قسوة. حين سكتت المدافع، لم يتوقف النزف، بل تغيّرت أدواته. فبعد عامين من استخدام القوة العسكرية بكامل ترسانتها، دخلت غزة مرحلة جديدة من الصراع، تُدار فيها المعاناة عبر سلاح مختلف: سلاح الطبيعة المُهمَلة عمدًا. لا صواريخ، ولا طائرات، بل شتاء قاسٍ، وبرد بلا مأوى، وجوع بلا غذاء، وعطش بلا ماء، في مساحة ما زالت محاصَرة ومحرومة من الحد الأدنى من شروط الحياة. في هذه المرحلة، لم يتغير الضحايا. هم أنفسهم الذين كانوا تحت القصف: الأطفال، النساء، الشيوخ. الفئات الأضعف التي لا تملك قدرة على الاحتماء ولا وسيلة للهرب. الفرق الوحيد أن الموت لم يعد يأتي دفعة واحدة، بل صار بطيئًا، صامتًا، متدرجًا. برد يتسلل إلى الأجساد المنهكة، أمراض تنتشر في غياب الدواء، سوء تغذية يفتك بالأطفال، وخيام لا تقي مطرًا ولا ريحًا. كل ذلك يجري بعد إعلان وقف النار، وكأن المعاناة لم تكن جزءًا من الحرب، بل تفصيلًا ثانويًا يمكن تجاهله. إن ما يحدث في غزة بعد الحرب لا يمكن فصله عن سياق القوة والسيطرة. فحين يملك طرف ما السيطرة الجوية والبحرية والحدودية، ويمنع أو يقيّد الإعمار، ويؤخر إدخال الوقود والماء والغذاء، فإنه لا يكون متفرجًا على الكارثة، بل شريكًا في إدارتها. هنا تتحول الطبيعة من قدر إنساني إلى أداة ضغط سياسي. المطر يصبح تهديدًا حين لا توجد أسقف، والبرد يصبح قاتلًا حين لا يوجد وقود أو أغطية، والجوع يصبح سلاحًا حين يُترك الناس بلا طعام أو أفق. الأخطر في هذه المرحلة أن الحرب تبدو، في ظاهرها، منتهية. لا صور قصف، ولا بيانات عاجلة، ولا صخب إعلامي. لكن الواقع على الأرض يقول إن القتل مستمر، وإن المعاناة لم تُرفع، بل أُعيد تدويرها بشكل أقل كلفة سياسيًا وأكثر إيلامًا إنسانيًا. فالموت في البرد والجوع لا يثير العناوين نفسها، ولا يستدعي ردود الفعل ذاتها، لكنه يحصد الأرواح ذاتها. ما بعد الحرب هو الاختبار الحقيقي للقيم، لا للقوة. هو اللحظة التي يُفترض أن تتحول فيها التصريحات إلى أفعال، وأن تُقاس المسؤولية بقدرة الأقوى على حماية المدنيين لا تركهم لمصيرهم. وفي غزة، فشل هذا الاختبار حتى الآن. لم يُمنح الناس حقهم في التعافي، ولا في إعادة البناء، ولا حتى في الاحتماء من شتاء قاسٍ، وكأن المعاناة يجب أن تستمر بصيغة أخرى. هذا النص ليس مرثية عاطفية، ولا دعوة للانتقام، بل جرس إنذار. إن استخدام الطبيعة كسلاح صامت أخطر من استخدام الصواريخ، لأنه يقتل بلا صورة، وبلا عنوان واضح، وبلا مساءلة فورية. حربٌ تنتهي على الورق لكنها تستمر في حياة الناس هي حرب لم تنتهِ بعد، وكل صمت عنها هو مشاركة غير مباشرة في استمرارها. .