ترك برس تناول مقال للكاتب والإعلامي التركي توران قشلاقجي، أزمة أوروبا في لحظة التحول إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث لم تعد القارة مركزا للقوة ولا حاملةً متماسكة للمعنى الذي أنتجته تاريخيا. يجادل الكاتب بأن مأزق أوروبا أعمق من كونه اقتصاديا أو عسكريا، إذ يتمثل أساسا في اتساع الفجوة بين إرثها الفكري القائم على القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين ممارستها السياسية الراهنة. وفي مواجهة تهديدات متزامنة من روسيا والصين، وتراجع الضمانة الأمريكية، تبدو أوروبا لأول مرة منذ قرون عاجزة عن تخيّل مستقبلها الخاص. حسبما يرى قشلاقجي. ويخلص الكاتب إلى أن إنقاذ أوروبا لا يعني الدفاع عنها كقوة، بل استعادة الجدية الأخلاقية والفكرية لقيمها، لأن انهيار أوروبا سيكون ضربة قاسية للغة القيم الكونية ذاتها، لا للقارة وحدها. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة القدس العربي: يدخل العالم، بعد انقطاع طويل، مجددا مرحلة متعددة الأقطاب. فبينما يتفكك النظام العالمي أحادي المركز، وأحادي الإرادة، وأحادي السردية؛ تبدأ القوة والسياسة والمعنى بالتوزع بين مراكز مختلفة. غير أن موقع أوروبا في هذا النظام العالمي الجديد بالغ الغموض. فإما أن تبقى فاعلا قسريا على هامش البنية متعددة الأقطاب، أو أن تجد نفسها، وللمرة الأولى في تاريخها، وقد خرجت كليا من اللعبة التي كتبت نصها بيدها. هذا المشهد لا ينبع من براءة أوروبا، بل على العكس، من العبء التاريخي الثقيل الذي تحمله على كتفيها. أوروبا التي ارتبط اسمها قرونا طويلة في افريقيا وآسيا والشرق الأوسط، بالاستعمار والنهب والوحشية، استطاعت رغم ذلك أن تبني داخل عالمها إرثا فكريا قويا. فمن كانط إلى هيغل، ومن روسو إلى مونتسكيو، ومن نيتشه إلى هيدغر، ومن حنا آرنت إلى فيبر، أسهم هذا التقليد الفكري في أن تترك أوروبا للعالم ليس السلاح والحدود فحسب، بل أيضا أدبياتٍ راسخة في الديمقراطية والقانون والفكر السياسي والعلاقات الدولية. وكان هذا الإرث هو الفارق الجوهري الذي ميّز أوروبا عن سائر التقاليد الإمبراطورية في القرن الأخير. غير أن أوروبا اليوم ترزح تحت وطأة المسافة المتسعة بين هذا الإرث الفكري الذي أنتجته، والواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه. فقارةٌ أبدعت أفكارا وجّهت العالم على مدى قرنين، باتت عاجزة عن تخيّل مستقبلها الخاص. والمشكلة لا تقتصر على الركود الاقتصادي، أو أزمة الطاقة، أو الضعف العسكري؛ بل هي أعمق من ذلك بكثير: أوروبا تواجه خطر فقدان معناها. وفي هذه المرحلة التي تتبدل فيها موازين السياسة العالمية بسرعة، يضيق الطوق حول أوروبا على نحو متزايد. وقد شكّل إعلان استراتيجية الأمن القومي الجديدة في الولايات المتحدة، مع إدارة ترامب، أحد أوضح مؤشرات هذا الانكسار، ففي الوثيقة، لم تعد روسيا التهديد الأول، بل وُضِع المهاجرون وأوروبا نفسها على لوحة الاستهداف. ولم يكن ذلك مجرد خيار دبلوماسي، بل لحظة انتقال تاريخية أقرت فيها الولايات المتحدة بضعف ادعائها بالقيادة العالمية. ومع تراجع أمريكا، تجد أوروبا نفسها أكثر فأكثر في العراء. ويعكس الحوار الذي أجراه جدعون راخمان كاتب الافتتاحية في السياسة الخارجية لصحيفة «فايننشال تايمز»، مع صحيفة «أوكسيجين»، هذا المزاج بوضوح. إذ يقول راخمان: «كنت في السابق لا أفكر في الجيوبوليتيك ليلا؛ أما الآن، ومع المخاطر التي تشكلها روسيا والصين وأمريكا ترامب، فإن أوروبا الغربية تدخل فترة بالغة الخطورة». وهو بذلك لا يعبّر عن قلق شخصي فحسب، بل يضع إصبعه على قلق وجودي عميق يخيّم على النخب الفكرية والسياسية في أوروبا. وكما يشير كتاب غربيون أيضا، تواجه أوروبا اليوم في آنٍ واحد ثلاثة تهديدات كبرى. أولها روسيا، التي يُقال إنها باتت أكثر عدوانية مما كانت عليه منذ الحرب الباردة، بل حتى أشد مما كانت عليه خلالها. ولم يعد هذا تهديدا نظريا؛ بل قوة ملموسة في حالة حرب فعلية، تدفع الحدود والتوازنات إلى أقصاها. وقد دفع هذا الخوف أوروبا إلى إعادة فتح النقاش حول الخدمة العسكرية الإلزامية، بعد سنوات طويلة، بل إلى تطبيقها في بعض البلدان. وهذا وحده كافٍ لإظهار مدى اهتزاز الهوية الأوروبية التي بُنيت على فكرة السلام. التهديد الثاني هو الصين؛ دولة ربما لم تكن يوما بهذه القوة، أو بهذه القدرة على الإنتاج والتخطيط الاستراتيجي، فلم تعد الصين تتقدم عبر العمالة الرخيصة فحسب، بل عبر التكنولوجيا، والقدرة الصناعية، والخطط طويلة الأمد. وباتت الصين، التي تحولت إلى منافس مباشر وتهديد للصناعة الأوروبية، تزيد المشهد ثقلا من خلال تحالفها غير الرسمي مع روسيا. أما التهديد الثالث، فالمفارقة أنه يأتي من الحليف القديم لأوروبا: الولايات المتحدة الأمريكية. فمع إدارة ترامب، لم تعد واشنطن تتجنب إظهار موقف عدائي صريح تجاه الاتحاد الأوروبي. ومن الناتو إلى التجارة، ومن الأمن إلى الدبلوماسية، لم تعد أوروبا في نظر واشنطن شريكا استراتيجيا، بل عبئا ثقيلا يصعب تحمّله. وعندما تجمع هذه التهديدات الثلاثة معا، تتشكل صورة شديدة الاضطراب. ولا شك أن أوروبا الغربية تمرّ ربما بإحدى أكثر مراحلها هشاشة منذ الحرب العالمية الثانية. قد تبدو الحياة اليومية منتظمة، ولا يزال الرفاه ملموسا إلى حد كبير، وتبدو الشوارع آمنة. غير أنه، وبتعبير جدعون راخمان المجازي، فإن «البرابرة» باتوا حقا على أبواب أوروبا. على الباب الشرقي، والباب الغربي؛ بل وأبعد من ذلك شرقا، في الصين. إن دعوة «دعونا ننقذ أوروبا» ليست دفاعا رومانسيا عن القارة، ولا تعني هذه الدعوة تجاهل أخطاء أوروبا التاريخية. على العكس، إن إنقاذ أوروبا يعني أن تستعيد الجدية في التعامل مع الأفكار التي أنتجتها هي نفسها. يعني الدفاع عن القانون في مواجهة القوة، وتقديم حقوق الإنسان على حسابات المصالح الضيقة، وإخراج الأخلاق من كونها زينة للسياسة، وإعادتها إلى مركزها الحقيقي. فإذا انهارت أوروبا، فلن ينهار إقليمٌ جغرافي فحسب؛ بل ستتلقى لغة القيم الكونية التي بنتها الإنسانية خلال القرنين الأخيرين ضربة قاسية. ولهذا، فإن يقظة أوروبا ليست شأنا أوروبيا محضا، إنقاذ أوروبا هو محاولة لحماية العالم من الانزلاق إلى عصرٍ أكثر فجاجة، وأكثر تعرّيا، وأكثر قسوة تحكمه القوة وحدها. ربما لم يَفُت الأوان بعد. لكن الزمن يمضي سريعا وينفد.. بالنسبة لأوروبا.