مقال: ماذا يخسر السوريون في تركيا ودول اللجوء الأخرى حين تتراجع لغتهم العربية؟

ترك برس تناول مقال للكاتب والأكاديمي فراس السقال، تداعيات تراجع اللغة العربية لدى السوريين اللاجئين في تركيا ودول اللجوء الأخرى، وآثار ذلك على هويتهم الثقافية واللغوية والاجتماعية. السقال وهو أستاذ جامعي في جامعة تركية، ماجستير في العلوم الإسلامية والعربية، قال إنه منذ قرون كانت اللغة العربية في بلاد الشام جزءا أصيلا من حياة الناس. كانت لغة الدين والتاريخ، ولغة الشعر والفقه، ولغة الأسواق والمجالس والمدارس؛ ولم يكن السوري يفكر في "كيفية حفظ العربية" لأنها كانت حاضرة في كل مكان. وأضاف: وظل هذا الحال حتى جاءت موجة الهجرة عام 2011 بعد انفجار الثورة السورية المباركة، فانتقلت مئات آلاف الأسر إلى بلاد عدة، ومنها تركيا. وولد جيل جديد لم يعرف الشام إلا من خلال حديث والديه وصور الطفولة المعلقة على الجدران. وفيما يلي تتمة المقال على موقع "الجزيرة نت". وبينما احتفظ الجيل الأول بعربيته بدرجات متفاوتة، نشأ الجيل الثاني داخل بيئة لغوية مختلفة تماما: بيئة تركية التعليم والشارع والصداقات، وعربية المنزل فقط. ومن هنا بدأ الفارق الواضح بين الأجيال: عربية متينة عند الكبار، وضعيفة أو متعثرة عند الصغار. هذا التغيير العميق في البيئة أنتج واقعا لغويا جديدا؛ فالطفل السوري الذي يعيش في تركيا لا يسمع العربية إلا ساعات محدودة، بينما يسمع التركية طوال يومه: في المدرسة، وفي الشارع، وفي الألعاب الإلكترونية، وفي المحتوى الترفيهي الذي يستهلكه. فتتحول العربية إلى لغة منزلية محدودة، لا لغة يعيش بها ويتعامل مع عالمه الخارجي. وتزداد المشكلة وضوحا في الولايات التي يقل فيها وجود العرب؛ ففي ولاية "بولو" مثلا، حيث أعيش، يكاد ابني يمضي أسابيع أو شهورا كاملة دون أن يسمع عربيا خارج بيته. وهذا يختلف تماما عن مدن أخرى كإسطنبول أو غازي عنتاب أو أورفا، حيث تشكل الجالية العربية هناك محيطا لغويا وثقافيا يساعد الطفل على الاحتفاظ بلسانه الأم. هذا المشهد لا يخص السوريين في تركيا وحدها، بل هو حال معظم الجاليات السورية في البلدان الأجنبية المختلفة؛ فالمعادلة تتكرر في كل مكان: لغة أم تتراجع أمام لغة المجتمع المضيف. المدرسة التركية بدورها تلعب الدور الأكبر، فدوام الأطفال يمتد ساعات طويلة، وكل التعليم يتم باللغة التركية، وهذا ما يجعل التركية هي اللغة الأقرب إلى عقل الطفل وسلوكه. بعد المدرسة يعود إلى البيت مرهقا، فيجد أن ما تعلمه ولعبه وفهمه طوال اليوم كان بالتركية، بينما العربية لم يكن لها إلا نصيب ضئيل من يومه. وهذا يفسر لماذا يتقن الأطفال التركية بسرعة، بينما يعجز كثير منهم عن صياغة جملة عربية سليمة، رغم أن أهلهم عرب. ومع مرور الوقت تتشكل ظاهرة لغوية جديدة: لغة هجينة هي مزيج من العربية والتركية. إذ يسمع المرء جملا عربية محشوة بكلمات تركية، أو نطقا عربيا متأثرا بالإيقاع التركي. بعض الأطفال لا يستطيعون صياغة فكرة بسيطة بالعربية دون توقف وارتباك. فولدي الصغير ينفجر غضبا وهو يتحدث معي أو مع أمه؛ لأنه يفقد الأمل في إيجاد أو تذكر الكلمة العربية المناسبة ليعبر بها عن حاجته. وبعض أبنائي يتجنبون الحديث مع الأقارب عبر الهاتف، أو مع العرب الذين يزوروننا أحيانا، ليس لأنهم لا يحبونهم، بل لأنهم يشعرون بنقص في لغتهم العربية، فيخافون أن يظهر ضعفهم أمام الآخرين. ولا يمكن إغفال العامل النفسي المرتبط بالخوف من العنصرية، التي انتشرت بتشجيع من بعض الأحزاب التركية المعارضة. فبعض الأطفال يلاحظون نظرات أو تعليقات غير لطيفة عندما يتحدثون بالعربية في الأماكن العامة، فيتولد لديهم شعور بأن العربية قد تسبب لهم إحراجا، فيلجؤون لا شعوريا إلى استخدام التركية خارج البيت. بل يقول لي أحد أبنائي إذا رافقته إلى السوق: "أبي، أرجوك لا تتكلم معي العربية في السوق". هنا لا يعود ضعف العربية مشكلة لغوية فحسب، بل يتحول إلى مشكلة ثقة بالهوية. ومع غياب المجتمع العربي المتماسك في بعض المدن، تضيق المساحة التي تستطيع الأسرة العربية أن تحافظ فيها على لغتها وتراثها. تراجع حضور الكتب العربية في البيوت، وانقطع كثير من الأطفال عن قراءة القرآن أو تعلمه من الأساس، ففقدوا واحدا من أهم مصادر تثبيت العربية. وفي المقابل، أصبح المحتوى الترفيهي التركي من تلفاز وهواتف وألعاب إلكترونية المصدر الأقوى لتكوين مفردات الطفل وطريقة نطقه. ومع مرور الوقت، يبتعد الجيل الجديد عن ثقافته الأصلية؛ فلا يعرف كثيرا عن أعراف أهله وتاريخهم وأدبهم. وحتى العبارات الشامية التي كانت تتوارثها الأجيال لم تعد مفهومة لديه. وهذا كله يشكل حلقات مترابطة، انفراط حلقة منها يضعف السلسلة بأكملها. كل هذه الظروف تجعل وضع اللغة والهوية عند الأطفال مضطربا وغير واضح. فبعض الأطفال لا يتقنون العربية كما يجب، ولا يتقنون التركية إتقانا كاملا أيضا. فينشأ جيل لغته الأم ضعيفة، ولغته الثانية غير متينة، فيخسر ميزة الازدواج اللغوي التي يمكن أن تمنحه فرصا أفضل في الدراسة والعمل مستقبلا. وكأنما نشأت لديه لغة ثالثة ليست هي الوالد ولا الوليد. ومع استمرار هذا الضعف يزداد التشتت بين هوية سورية لا يستطيع التعبير بها، وهوية تركية لا يشعر بالانتماء الكامل إليها. والنتيجة النهائية التي يخشاها كثير من الآباء هي ظهور جيل بلا جذور لغوية واضحة؛ جيل يبتعد عن قراءة القرآن، ويتراجع في مهارات الكتابة والقراءة العربية، ويجد صعوبة في التواصل مع أهله في المستقبل، ليس لأن العربية صعبة، بل لأن البيئة لم تساعده، ولأن اللغة الأكبر تأثيرا في حياته كانت لغة المدرسة والشارع والمجتمع، لا لغة البيت فقط. والحلول لهذه المشكلة موجودة، وإن كنت ضعيفا في تطبيقها رغم صعوبتها. وهي تبدأ بتوفير بيئة لغوية صغيرة داخل البيت: قدر من الحديث العربي اليومي، وقراءة قصيرة قبل النوم، وتواصل مستمر مع الأقارب، وسماع بعض الأناشيد والأهازيج الشعبية، وإشراك الأطفال في حلقات القرآن أو أي نشاط عربي متاح، ولو كان بسيطا. كما يمكن تخصيص "ساعة عربية" يومية أو أسبوعية داخل المنزل، وعرض محتوى عربي مناسب، والاعتماد على ألعاب لغوية وبطاقات كلمات تحبب اللغة إليهم. وفي الولايات التي يقل فيها العرب، يمكن لثلاث أو أربع عائلات فقط أن تصنع مجتمعا لغويا صغيرا، تلتقي فيه الأسر بين حين وآخر، فيسمع الأطفال العربية من أكثر من مصدر، ويحفظون ما تبقى من اللسان العربي. فالمسألة ليست مجرد لغة، بل هي مستقبل جيل كامل يبحث عن نفسه بين لغتين وموطنين. الحفاظ على العربية في الغربة ليس ترفا ثقافيا، بل ضرورة نفسية وهوياتية لأطفال يبحثون عن جذر يعودون إليه، وعن لسان يفهمهم ويفهمونه.