اتفاق الـ35 مليار دولار مع مصر بين السيادة المؤجَّلة والوظيفة الأميركية كتب زياد فرحان المجالي لم يعد الغاز في شرق المتوسط ملفًا اقتصاديًا تقنيًا يُدار بلغة الأرقام فقط، بل تحوّل إلى صفقة سياسية كبرى تكشف حدود القرار عندما تتقاطع الطاقة مع المصالح الدولية، وتضع سؤال السيادة قبل سؤال الجدوى. ومن هذه الزاوية، لا يُقرأ اتفاق تصدير الغاز بين إسرائيل ومصر، الذي تُقدَّر قيمته بنحو 35 مليار دولار، بوصفه تفاهمًا تجاريًا عاديًا، بل باعتباره اختبارًا عمليًا لسؤال أعمق: من يقرّر فعليًا عن إسرائيل عندما تدخل الطاقة في صلب الاستراتيجية الأميركية؟ الاتفاق، الذي تقوده شراكة حقل "ليفياثان” بين شركة NewMed الإسرائيلية وشركة شيفرون الأميركية، يقوم على تصدير كميات متزايدة من الغاز الإسرائيلي إلى مصر، حيث تتم معالجته في محطتي إدكو ودمياط لإسالة الغاز، قبل إعادة تصديره إلى الأسواق الأوروبية. نظريًا، تبدو الصفقة نموذجًا للتكامل الإقليمي: إسرائيل تصدّر فائضها، مصر تعزّز موقعها كمركز إقليمي للطاقة، وأوروبا تحصل على مصدر إضافي يخفّف اعتمادها على الغاز الروسي. غير أن هذا المشهد المتوازن يخفي خلفه شبكة معقّدة من الضغوط السياسية والاقتصادية. التردّد الإسرائيلي في الإعلان عن جدول زمني واضح لتنفيذ الاتفاق لا يمكن اعتباره تفصيلًا إجرائيًا. في الداخل الإسرائيلي، تدور خلافات حقيقية حول أولويات الطاقة. وزارة الطاقة تسعى إلى ضمان أسعار منخفضة للسوق المحلي في ظل حساسية اجتماعية متزايدة تجاه كلفة المعيشة، فيما يضغط الشركاء التجاريون من أجل تثبيت جدوى الاستثمارات والتوسعات المخططة في الحقول والبنية التحتية. إلى جانب ذلك، تلعب السياسة دورًا مباشرًا، إذ تنظر تيارات يمينية داخل الحكومة إلى تصدير الغاز باعتباره تنازلًا استراتيجيًا، خاصة في بيئة إقليمية مضطربة ومفتوحة على احتمالات أمنية. لكن العامل الحاسم في هذا الملف لا يوجد داخل إسرائيل وحدها، بل خارجها. الضغط الأميركي يشكّل العنصر الأكثر تأثيرًا في دفع الصفقة إلى الأمام. واشنطن لا تتعامل مع الاتفاق باعتباره مسألة ثنائية بين تل أبيب والقاهرة، بل كحلقة أساسية في منظومة أمن الطاقة الأوروبي. وفي سياق الصراع الغربي مع روسيا، تعمل الولايات المتحدة على تقليص أي فرصة لعودة الغاز الروسي إلى الواجهة، لا سيما خلال فترات ذروة الطلب. من هذا المنظور، يصبح تدفّق الغاز الإسرائيلي إلى مصر مسألة جيوسياسية أميركية بامتياز. وجود شركة شيفرون في قلب الصفقة يوضّح طبيعة هذا الضغط. فالشركة الأميركية، التي تمتلك حصة مؤثرة في حقل "ليفياثان”، تحتاج إلى تدفّق مستقر وطويل الأمد لتبرير استثماراتها وتوسعاتها. وحماية هذه الاستثمارات لا تُدار عبر السوق فقط، بل عبر القنوات السياسية والدبلوماسية. حين تكون مصالح شركة أميركية كبرى على المحك، تتحوّل تلقائيًا إلى أولوية في حسابات واشنطن، ويُطلب من الحليف الإسرائيلي التكيّف مع هذا الواقع. هنا يبرز السؤال الأكثر حساسية: إلى أي حدّ تملك إسرائيل قرارها الكامل في ملفات استراتيجية كهذه؟ الواقعية السياسية تشير إلى أن هامش الاستقلال يتقلّص كلما تشابكت المصالح الاقتصادية مع التحالفات الأمنية. إسرائيل ليست دولة بلا سيادة، لكنها تعمل ضمن إطار تحالفي يفرض حدودًا واضحة للحركة. فالولايات المتحدة لا تعمل "لأجل إسرائيل” بدافع عاطفي أو أيديولوجي، بل تعمل "من خلالها” كجزء من هندسة أوسع لأمن الطاقة والتحالفات الغربية. في المقابل، تقف مصر طرفًا محوريًا في هذه المعادلة، لكن من زاوية مختلفة. القاهرة تتعامل مع الملف ببراغماتية واضحة. تراجع الإنتاج المحلي، خصوصًا بعد انخفاض إنتاج حقل "ظهر”، جعلها أكثر اعتمادًا على الغاز الإسرائيلي لتلبية احتياجاتها الداخلية وتشغيل محطات الإسالة. أي انقطاع في الإمدادات يعني اللجوء إلى سوق الغاز المسال العالمية بأسعار مرتفعة، ما يضغط على ميزان المدفوعات ويستنزف العملة الصعبة. من هنا، ترى مصر في الاتفاق ركيزة أساسية لتعزيز موقعها كمركز إقليمي لإعادة تصدير الغاز. هذا الدور لا يوفّر عوائد مالية فقط، بل يمنح القاهرة وزنًا سياسيًا إضافيًا في علاقتها مع أوروبا والولايات المتحدة. ومع ذلك، يدرك صانع القرار المصري أن الاعتماد المتزايد على الغاز الإسرائيلي يخلق علاقة حساسة، تجعل أمن الطاقة المصري مرتبطًا بقرار إسرائيلي خاضع، في نهاية المطاف، لتأثيرات أميركية. هذه السلسلة من الاعتمادات المتبادلة تكشف هشاشة المنظومة بأكملها. فأي تعطّل في القرار داخل تل أبيب، أو تغيير في الأولويات داخل واشنطن، أو تصعيد أمني غير محسوب، ستكون له تداعيات مباشرة على جميع الأطراف. لذلك، تسعى القاهرة إلى تثبيت الاتفاق، ولو بصيغة انتقالية، مع ترك باب مراجعة الأسعار مفتوحًا، بهدف تقليل المخاطر وضمان الاستمرارية. في المحصلة، لا يمكن قراءة اتفاق الغاز بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع. نحن أمام نموذج جديد لإدارة الموارد في الشرق الأوسط، حيث تتقدّم الجغرافيا السياسية على السيادة الاقتصادية. الغاز لم يعد مجرد ثروة طبيعية، بل أداة نفوذ تُدار وفق بوصلة أميركية، فيما تحاول إسرائيل ومصر التحرك داخل هذا الإطار، كلٌّ وفق مصالحه وحدود قدرته على الاعتراض. يبقى السؤال مفتوحًا: هل هذه المعادلة قابلة للاستدامة؟ أم أن تراكم الضغوط سيقود لاحقًا إلى تصدّعات، عندما تتعارض "الوظيفة” التي تؤديها إسرائيل في منظومة الطاقة مع اعتبارات السياسة الداخلية والأمن القومي؟ ما هو مؤكد أن قرار تدفّق الغاز في شرق المتوسط لم يعد قرارًا محليًا خالصًا، بل نتاج توازنات دولية معقّدة، عنوانها الأبرز: واشنطن ترسم الإطار، والآخرون يتحرّكون داخله. .