يشهد التعليم الخاص في الأردن انفلاتًا غير مسبوق في الأقساط، حتى بات كثير من الأهالي يشعرون أن المدارس الخاصة تتعامل مع التعليم كسلعة فاخرة لا كحق أساسي. فالأرقام التي تتراوح بين 9,000 و9,300 دينار للمرحلة الثانوية في بعض مدارس عمّان، و3,500 إلى 4,500 دينار في مدارس أخرى، لم تعد مجرد "تكلفة تعليم”، بل عبئًا خانقًا ينهك الأسر عامًا بعد عام، خاصة مع زيادات سنوية وصلت إلى 10–25% للعام 2025/2026 بلا مبرر مقنع أو رقابة رادعة. لم يعد الأمر محصورًا بمدارس "النخبة” التي تسوّق نفسها عبر المباني الفاخرة والأنشطة الباذخة، بل أصبح سلوكًا عامًا لدى معظم المدارس الخاصة التي تتفنن في ابتكار رسوم إضافية تحت مسميات براقة مثل "تطوير” و"أنشطة” و"مختبرات”، رغم أنّ هذه العناصر جزء بديهي من أي مؤسسة تعليمية محترمة. والنتيجة أن الطبقة المتوسطة، التي كانت لسنوات عمود التعليم الخاص، وجدت نفسها تُدفع دفعًا إلى التعليم الحكومي بعد أن عجزت عن مجاراة جشع تلك المدارس. في المقابل، تستمر إدارات المدارس في تكرار المبررات ذاتها: ارتفاع الكلف التشغيلية ورواتب المعلمين. لكن الأهالي، الذين يدفعون مبالغ فلكية، لا يلمسون أي تحسين حقيقي في نوعية التعليم أو الخدمات، ما يجعل تلك التبريرات أقرب إلى ذرائع لإخفاء سباق محموم نحو الأرباح. ومع غياب الشفافية، وتزايد الشكاوى لدى جهات حماية المستهلك حول "فوضى التسعير”، يبدو المشهد أقرب إلى سوق مفتوحة بلا ضوابط، حيث يحدد كلٌّ ما يشاء ويزيد كيفما يشاء. هذا الانفلات دفع آلاف الأسر نحو التعليم الحكومي، ما خلق ضغطًا هائلًا على المدارس الرسمية التي تعاني أصلًا من اكتظاظ ونقص في المعلمين والغرف الصفية. وهكذا يتحول التعليم إلى ميدان طبقيّ واضح: من يستطيع الدفع يحصل على مقعد في مدرسة خاصة، ومن لا يستطيع يجد أبناءه في غرفة تضم أربعين طالبًا أو أكثر. يتحوّل التعليم إلى امتياز، لا حق يكفله الدستور. ويرى خبراء أن وقف هذا التدهور لا يكون إلا بتشديد الرقابة الفعلية على المدارس الخاصة، ووضع سقوف سعرية ملزمة، وفرض معايير واضحة لأي زيادة يطلبونها، إلى جانب الاستثمار الجاد في التعليم الحكومي ليصبح خيارًا قادرًا على منافسة القطاع الخاص بدل أن يكون ملاذًا اضطراريًا. إنّ ما يحدث ليس مجرد ارتفاع في الأسعار، بل تحوّل في جوهر التعليم نفسه؛ فبدل أن يكون وسيلة لصنع مستقبل أفضل، يصبح بوابة إقصاء وتمييز. وفي بلد تتصارع فيه العائلات لتأمين أساسيات الحياة، يبدو القسط المدرسي حائطًا يعلو عامًا بعد عام، يهدد فرص الأطفال ويقوّض قيم العدالة والمساواة. وإن لم تُتخذ خطوات إصلاحية حقيقية وعاجلة، فسيجد جيل كامل نفسه يدفع ثمن جشع لم يعد أحد يخجل من ممارسته. وفي مواجهة هذا الواقع المختل، لا بد من حلول جذرية لا تجميلية، تبدأ بفرض رقابة صارمة تُلزم المدارس الخاصة بكشف بياناتها المالية وتبرير كل زيادة بشكل موثق، ووضع سقوف سعرية لا يمكن تجاوزها مهما تعددت المسميات. كما يصبح الاستثمار في التعليم الحكومي ضرورة وطنية لا خيارًا ثانويًا، بهدف تطوير البنية التحتية وزيادة أعداد المعلمين وتأهيلهم، بحيث يستعيد القطاع الرسمي دوره الطبيعي كخيار تعليمي محترم وقادر على المنافسة. ولا يقلّ أهمية عن ذلك وضع آلية شكاوى مُلزمة تُجبر المدارس على الامتثال، وتشرك الأهالي في صنع القرارات المتعلقة بالرسوم والخدمات، حتى لا يبقى هذا القطاع مكانًا مغلقًا يتحكم فيه رأس المال وحده. فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق إلا عندما يصبح الطالب محور العملية التعليمية، لا مصدرًا لزيادة الأرباح. .