لا يمكن عدّ كتاب “النشر والأزمة المستمرة” - وهو إصدار ضمن سلسلة “الصحافة في الخليج” للكاتب والإعلامي البحريني القدير إبراهيم بشمي - تأريخًا جامدًا لتجربة صحافية، لكنه عملية تفكيك نقدي لأزمة مركّبة تتداخل فيها السياسة بالقانون، والمهنة بالاقتصاد، والتقنية بالثقافة. ما قبل القانون الجديد وفي المسار ذاته، لا يبتعد بشمي عما يمكن أن يجول في عقل القارئ من أفكار تتصل بحرية التعبير وقوانين النشر، والمهنية ومستقبل الصحافة الورقية في زمن التحول الرقمي؛ فحتى قبل صدور المرسوم بقانون رقم (41) للسنة 2025 بتعديل بعض أحكام المرسوم بقانون رقم (47) للسنة 2002 بشأن تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، وذلك بعد إقرار مجلس الشورى ومجلس النواب في أكتوبر الماضي، وتعديل عنوانه ليكون “المرسوم بقانون رقم (47) لسنة 2002 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام الإلكتروني”، كان بشمي واحدًا ممن أجروا مراجعة للقانون منذ سنوات. وتلك المراجعة قادت الكاتب بوضوح إلى رؤية أن الإشكالية لا تكمن في وجود القوانين بحد ذاتها، بل في تراكم النصوص وتعدد المرجعيات. فقدان “ميزة السبق” وهناك ركن مهم في الكتاب، إذ حاول بشمي استعادة مفهوم ثلاثية الصحافة: السبق، والمصداقية، والمهنية، مشيرا إلى أن هذه القيم تعرضت لاختلال عميق مع صعود الإنترنت والفضائيات؛ فالصحافة الورقية فقدت ميزة السبق الزمني، وتعرّضت المصداقية للاستنزاف تحت ضغط السرعة، بينما تراجعت المهنية أو تنازلت أمام منطق السوق والإعلان، ومع ذلك، يؤكد أن الصحافة الورقية لم تفقد دورها بالكامل، بل بات مطلوبًا منها أن تعيد تعريف وظيفتها عبر مدّ جسور معرفية جديدة للقارئ، قائمة على التحليل والسياق والعمق، لا على الاستهلاك السريع. “بروكسات” غير معلنة وماذا عن العلاقة الملتبسة بين السياسة والصحافة؟ الجواب، كما هو معروف عن مسيرة بشمي في الدفاع عن بلاط صاحبة الجلالة، يرى أن العامل السياسي يظل حاضرًا بقوة في تشكيل بيئة العمل الصحافي، سواء عبر التشريعات أو من خلال ما يسميه “البروكسات” غير المعلنة، وهي قيود غير مكتوبة لكنها فاعلة، والـ “بروكسات” هنا إشارة إلى وجود أدوات أو وسطاء غير مباشرين يُستخدمون للتأثير أو التنفيذ أو التحكم دون الظهور المباشر للفاعل الحقيقي. التحرر من اللهاث وفي تناوله لمستقبل الصحافة الورقية، يرفض بشمي خطاب “نهاية الصحافة”، عادًّا الخطر الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا، بل في تفريغ المهنة من جوهرها؛ فالصحيفة، بحسب رؤيته، مطالبة بأن تكون أقل استهلاكية، وأكثر احترامًا لعقل القارئ، وأن تتحرر من اللهاث خلف الجوائز والإثارة الموسمية، وأن تعود إلى دورها التنويري والرقابي. ويدعو إلى صياغة ما يمكن وصفه بـ “كتاب أسلوب” مهني خليجي، يعيد تعريف المفاهيم الأساسية للعمل الصحافي، ويحصّن المهنة أخلاقيًا وقانونيًا؛ ذلك لأن استعادة السبق والمصداقية والمهنية لا تتحقق بالشعارات، بل بآليات عمل واضحة، وتدريب مهني جاد، وحماية حقيقية للصحافي. مراجعة “ضمير مهني” بالإمكان وصف جوهر كتاب بشمي بأنه أقرب إلى مراجعة ضمير مهني، إذ يطالب الصحافة بأن تعيد النظر في ذاتها قبل أن تحاكمها التحولات من حولها، ويشير إلى أن إنقاذ الصحافة الخليجية والورقية تحديدًا، لا يكون بالحنين إلى الماضي، ولا بالاكتفاء بتغيير المنصات، بل عبر إعادة تعريف الدور: صحافة مسؤولة، واعية، أقل استهلاكية، وأكثر التزامًا بالقارئ بوصفه شريكًا لا مجرد مستهلك.