كتب جانتي نورالدين أبزاخ أنقذني المنتخب الوطني لكرة القدم من اليأس، كما أنقذ جميع الأردنيين، ليس لأنه لعب مباراة جميلة فحسب، بل لأنه قام بما عجزت عنه الحكومات: تقديم نموذج عملي للنجاح المبني على التخطيط والعمل الصامت . في كأس العرب، لم يرفع النشامى الشعارات، بل رفعوا مستوى الأداء، ولم يخاطبوا العاطفة، بل احترموا العقل؛ فكان الإنجاز صادقًا، بلا تزويق ولا ادعاء. وختم النشامى مشوارهم بمباراة تليق بالأردن والأردنيين: أداء جماعي منضبط، وروح قتالية راقية، فارتسمت لوحة كروية فنية متقنة حظيت باجماع محلي وعربي ، اجماع الهواة والخبراء . لم أكن من رواد المدرجات المحلية، ولا من حفظة أسماء اللاعبين والمدربين. أعرف منتخبات العالم الكبرى أكثر مما أعرف منتخب بلادي، وكنت – اعترافًا – من الزاهدين في كرة القدم المحلية. غير أن هذا المنتخب فاجأني بطريقة لعبه؛ أداء أقرب إلى العالمية لم تألفه ذاكرتنا الكروية. فما عرفناه عنه طويلًا كان مجرد منافسة محدودة، وبطولات متواضعة، وسقف فني لا يطمح إلى العلو. ولكن هذا المنتخب فرض نفسه بالقوة الناعمة: أداء منضبط، تكتيك واضح، وروح جماعية تعرف حدودها وتسعى لتجاوزها، لا بالكلام بل بالفعل. صنع المنتخب الإنجاز، ليس في البيانات، بل على العشب الأخضر. تركت الرياضة زمنًا، وانصرفت إلى السياسة، لمتابعة حكومات تتعاقب كما يتعاقب العابرون على ذاكرة وطن؛ تغييرات شكلية، ووجوه تتبدل، وسياسات يُعاد تدويرها، وخطاب لا يُنتج أثرًا. سنوات طويلة من الإصلاحات المؤجلة التي لا تُرى ولا تُلمس. وبالمقابل، في اتحاد كرة القدم لم نسمع عن خطط مئوية، ولا عن لجان لا تنتهي، ولا عن مؤتمرات تبيع الوهم، ولا عن أجندات رياضية، ولا عن استراتيجيات مستوردة معلبة، ولا عن شماعات تُعلق عليها الإخفاقات، ولا عن إنجازات إعلامية وهمية، ولا عن صراعات مراكز القوى، ولا عن أسماء تُفرض وأخرى تُقصى، ولا عن أزمات مدرّبين ولاعبين، ولا عن واسطات ومحسوبيات... كل ما كان حاضرًا هو العمل المتراكم والمستدام . لم نسمع عن شماعة الاستهداف، ولا عن نظرية المؤامرة، ولا عن التشكيك بالانتماء، ولا عن خطاب يشكو الجمهور بدل أن يُسعده. كان هناك هدف واحد: اللعب الجيد، والنتائج تأتي بعد ذلك تباعًا. إعلاميًا، حضر المنتخب بلا ضجيج: بلا مؤتمرات فارغة، بلا محللين من صنف "المؤلفة قلوبهم"، بلا جيوش إلكترونية مأجورة، بلا مزايدات وطنية ساذجة، ولا رسائل موجّهة تخاطب العاطفة وتستخف بالعقل. فلم تُصنع الإنجازات في الاستوديوهات وتحت السلالم الخلفية، بل على أرض الملعب. هذا المنتخب لم يكن فريقًا فحسب، بل منظومة متكاملة: مدرب يعرف ماذا يريد، لاعبون يعرفون من يمثلون، جهاز إداري وفني يعمل بصمت، وجمهور يعرف كيف يؤازر وبماذا يهتف. وفوق الجميع، اتحاد كرة قدم يُسجَّل له هذا الإنجاز تخطيطًا وإدارةً وتنفيذًا. لهم التحية؛ فقد اقتحموا قلوبنا دون استئذان وبيانات حكومية، وبثّوا الدفء في ليالي ديسمبر الباردة في جميع مدن الوطن وقراه وبواديه ومخيماته. عمل المنتخب كما ينبغي: بتخطيط واضح، أدوار محددة، مساءلة داخلية، وثقة متبادلة بين الإدارة واللاعبين. فلم يكن هناك غموض في القرار، ولا تداخل في الصلاحيات، ولا غياب للمساءلة، ولا ريبة دائمة من الجمهور. وقف الأردنيون خلف منتخبهم بعفوية، بلا دعوات عشائرية، وبلا توجيهات فوقية واوامر ادارية . وقفوا مع منتخبهم الوطني لأنهم رأوا أنفسهم فيه، ووقفوا لأن الأردني بطبعه ذَوّاق وذكي، يفرّق بين الادعاء والإنجاز، ويمنح ثقته لمن يستحقها. ولو قصّر المنتخب، لكان النقد حاضرًا؛ فالمحبة لا تُلغي المكاشفة. فكانت هناك ثقة متبادلة: اتحاد يعمل، لاعبون يجتهدون، جمهور ينتظر، وملعب يقول كلمته. ولم يكن المنتخب متجر شعارات؛ لم يُبع لنا الوهم بأسماء رنانة: منتخب المئوية، منتخب الإنجاز، منتخب الميادين. لم يُقل لنا إن الكأس في الجيب، بل قيل لنا: سنلعب، وسنبذل، وما يأتي نرضى به. فجاءت الوصافة، وجاء معها احترام الجميع وتقديرهم، وهذا إنجاز لا يقل شأنًا عن الكأس. ولم يبعنا المنتخب الوهم، ولم يقل إن البطولة مضمونة، ولم يصنع نصرًا إعلاميًا يسبق النتيجة. لعب وخسر بكرامة، فخرج مرفوع الرأس، ولم يروّج لإنجازات وهمية تكون عبئًا على الوطن. والمفارقة أن هذا الإنجاز الكروي وحّد من فرّقتهم السياسة. معارضون شرسون في الداخل والخارج أشادوا بالمنتخب، لأن الإنجاز حين يكون حقيقيًا لا يحتاج إلى خطاب تبريري، ولا إلى جهازعلاقات عامة ولا الى استراتيجية دراية اعلامية . إنجاز المنتخب وحّد المختلفين، فالتقى الأردنيون عند نقطة واحدة وقالوا كلمتهم: "إنه إنجاز لا يُجادل عليه أحد " . وأعترف مجددًا: لقد فاجأني هذا المنتخب. فمتى حدث هذا التحول والتطور؟ وكيف؟ ما شاهدناه تجاوز التوقعات وارتقى فوق التصور : انضباط، تكتيك، روح، ووعي بالمسؤولية . ولكن: هل نتعلّم أن العمل الصامت أجدى من الضجيج، وأن التخطيط أهم من الشعارات، وأن احترام عقل المواطن هو أول طريق النجاح؟ وإذا كان اتحاد كرة القدم قادرًا على بناء منظومة ناجحة، فلماذا تعجز الحكومات عن ذلك؟ وإذا كان احترام عقل الجمهور شرطًا للنجاح في الرياضة، فلماذا يُصرّ البعض على الاستخفاف به في السياسة؟ هل عرفنا أن الإنجاز يُدار بالتخطيط والمساءلة والصدق؟ أم سيبقى المنتخب استثناءً جميلًا في وطنٍ اعتاد أن يكون الاستثناء فيه هو الإنجاز؟ وأخيرًا، لم يكن إنجاز المنتخب الوطني الأردني في كأس العرب حدثًا رياضيًا عابرًا، بل شكّل لحظة وطنية جامعة أعادت الاعتبار لفكرة النجاح حين يُدار بعقلانية، ويُبنى على العمل الصامت لا على الشعارات. لم يكن ما قدّمه المنتخب مجرد أداء جميل في الملعب، بل نموذجًا عمليًا لما يمكن أن تحققه المنظومات حين تحترم التخطيط، وتؤمن بالمساءلة، وتُحسن إدارة الموارد البشرية . .