برهم صالح "نجاح عراقي في الخارج… وخيبة أخلاقية في الداخل"

ليس غريباً أن يختلف العراقيون لكن الغريب بل الفاضح أن يتحول حدثٌ دوليٌّ نادر، كقبول الجمعية العامة للأمم المتحدة للدكتور برهم صالح مفوضاً سامياً لشؤون اللاجئين إلى مناسبة لتصفية الأحقاد لا إلى لحظة افتخار وطني. لأول مرة في تاريخ العراق الحديث يصل سياسي عراقي إلى موقع أممي بهذا المستوى في منافسة شرسة ومعايير قاسية، ومع ذلك لم نسمع من بعض “المثقفين” و”المحللين” سوى لغة الانتقاص والتشكيك والتسقيط الرخيص. بدلاً من طرح السؤال الطبيعي، كيف نجح عراقي في اختراق مؤسسة أممية مغلقة كهذه؟ انشغلوا بأسئلة مريضة:- هل انتقص من “كرسي” رئاسة الجمهورية؟ هل هو انتهازي؟ هل كان فاسداً؟ أسئلة لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تبحث عن الطعن وعن تقزيم أي نجاح لا يمر عبر بواباتهم الضيقة. إن من يعرف الدكتور برهم صالح أو يقرأ مسيرته بحدٍّ أدنى من النزاهة الفكرية، يدرك أنه ليس سياسياً طارئاً ولا ابن لحظة. هو نتاج تجربة فكرية وسياسية طويلة تشكلت بين الأكاديميا والعمل الدبلوماسي والحزبي، وبين الداخل العراقي والمنصات الدولية. رجل يمتلك لغة العالم كما يمتلك فهمه لتعقيدات بلده ويعرف كيف تُدار الدول، لا كيف تُدار الشعارات. برهم صالح لم يصل إلى هذا الموقع لأنه كان رئيساً للجمهورية بل لأنه تجاوزها من حيث المعنى لا الشكل. فالمناصب لا تُقاس بقيمتها البروتوكولية بل بقدرتها على التأثير. ومنصب المفوض السامي لشؤون اللاجئين هو أحد أكثر المواقع حساسية في النظام الدولي، يتعامل مع مآسي البشر، لا مع صور الاستقبال ولا بيانات المجاملة. أما الاتهام الجاهز بـ”الانتهازية”، فهو يعكس عقليةٌ ترى في السياسة غنيمة شخصية لا مسؤولية عامة. في حين أن السياسة في معناها الناضج هي انتقال من موقع خدمة محدود إلى موقع خدمة أوسع وأثقل. والفرق شاسع بين من يلاحق الامتيازات ومن يقبل مسؤولية عالمية محاطة بالضغط والمساءلة والتاريخ. ومع ذلك، فإن الدفاع عن هذا الإنجاز لا يعني تحويل برهم صالح إلى شخصية معصومة من النقد. فالرجل، كغيره من السياسيين العراقيين لم يكن منزهاً عن الأخطاء. إدارته لمرحلة رئاسة الجمهورية، وخياراته السياسية، وحدود تأثيره داخل نظام مأزوم، كلها ملفات قابلة للنقاش والتقييم. لقد اختار في كثير من اللحظات منطق التهدئة على حساب المواجهة، والتسويات على حساب المبادرة، وهو خيار يمكن تفهمه في دولة هشة، لكنه يظل خياراً مشروعاً للنقد المسؤول، لا للتشويه الشخصي. غير أن السؤال الأخلاقي الأهم الذي يفرض نفسه هنا هو: أين كان هؤلاء النقاد والمحللون والمثقفون من المستنقعات السياسية العراقية ذاتها؟ أين كانت أقلامهم حين انهارت الدولة أمام أعين الجميع؟ وأين كانت تحليلاتهم حين شُلّت المؤسسات، وتحوّل البرلمان إلى ساحة صفقات، والحكومات إلى إدارات أزمات بلا رؤية؟ وأين كان صوتهم حين نُهبت الثروات، وضاعت السيادة، وتفكك التعليم، وانهار الاقتصاد، وهاجر الشباب؟ كثير منهم صمتوا أو برّروا أو اصطفّوا أو مارسوا نقداً آمناً لا يكلّفهم شيئاً. وحين خرج اسم عراقي إلى فضاء دولي تنافسي استعادوا فجأة شجاعتهم النقدية لكن باتجاه الشخص لا البنية وباتجاه النجاح لا الفشل المزمن. ثم يأتي السؤال المسكوت عنه دائماً، هل كان سيُستقبل هذا الحدث بالكراهية نفسها لو كان صاحبه عربياً؟ وهل كانت الأقلام ذاتها ستكتب بالحدة نفسها لو لم يكن الرجل كردياً، أو لو كان منتمياً إلى مركز الهيمنة السياسية التقليدية في العراق؟ لا يمكن فصل هذا الهجوم عن بقايا شوفينية مريضة، ولا عن غيرة سياسية صرفة. فالرجل نجح حيث فشلت كتل كاملة وأحزاب عريقة وشخصيات تدّعي الخبرة والتمثيل الوطني. المشكلة في جوهرها ليست برهم صالح. إنها مشكلة ثقافة تعاقب النجاح وتشكك في الكفاءة وتخاف من الاعتراف بالآخر. ثقافة ترى في كل إنجاز مؤامرة وفي كل تفوق خيانة وفي كل اعتراف دولي صفقة مشبوهة. يا لقذارة هذه الثقافة المعاصرة ويا لانحطاط خطابٍ لا يحتمل الصدق حين لا يخدم مصالحه. إن فوز الدكتور برهم صالح بهذا الموقع ليس انتصاراً لشخصه فقط، بل شهادة على أن العراق رغم الخراب ما زال قادراً على إنتاج عقول سياسية راقية، متى ما أُتيحت لها فرصة الخروج من مستنقع الداخل. لكن يبدو أن المشكلة ليست في من صعد… بل في من لم يستطع أن ينهض فاختار أن يشتم السماء.