كتب زياد فرحان المجالي في لحظةٍ تبدو فيها المنطقة وكأنها تمشي على حافة قرارٍ كبير، تتكشّف صورة مركّبة لا تحتمل القراءة السطحية. مفاوضات تُدار في العلن، وترتيبات تُطبخ في الغرف الخلفية، و”هدنات” تعيش على جهاز التنفّس الاصطناعي. الخبر اللافت ليس مجرد اجتماع سيعقده المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف في ميامي مع قطر ومصر وتركيا لمناقشة "اليوم التالي” في غزة، بل غياب إسرائيل عن طاولة تُناقَش فيها ترتيبات تمسّ أمنها المباشر، بالتوازي مع نقاشٍ أمني في مكتب بنيامين نتنياهو استعدادًا لزيارة واشنطن. كأن الرسالة الضمنية واضحة: من يملك مفتاح "القرار التنفيذي” النهائي لا ينتظر اكتمال الحضور. ميامي: حين تتحوّل الوساطة إلى هندسة قرار أن يجلس ويتكوف مع ممثلي قطر ومصر وتركيا لمناقشة الخطوات التالية بشأن غزة، فهذا يعني أن واشنطن لا تبحث عن وساطة "تجميلية”، بل عن تصميم مسار: جدول انتقال إلى "مرحلة ثانية”، تصور أمني لإدارة الهدوء، وأدوات ضغط لضبط الأطراف. إدخال تركيا إلى هذا المسار لافت، لأنه يتجاوز القناة التقليدية (القاهرة–الدوحة)، ويضيف لاعبًا يمتلك نفوذًا سياسيًا وإعلاميًا وشبكات تأثير إقليمية، قادرًا – إن أُريد له – أن يكون جزءًا من الحل أو عامل تعطيل. لكن الأهم من "من حضر” هو من غاب. غياب إسرائيل يخلق إحراجًا سياسيًا لنتنياهو داخليًا، لأنه يبدو كمن يُستدعى لاحقًا للتوقيع، ويخلق إحراجًا خارجيًا لأن واشنطن قد تُسوّق المسار على أنه "إقليمي” مكتمل، ثم تطلب من إسرائيل الانضمام إليه كأمر واقع. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة قررت تجاوز إسرائيل استراتيجيًا، لكنه يعني بوضوح أنها تسعى إلى تقليص قدرة أي طرف على تعطيل القصة الكبرى التي يبنيها دونالد ترامب: وقف إطلاق نار يُعرض كإنجاز، وملف يُقدَّم للرأي العام الأميركي باعتباره "أُغلق”. "واشنطن تصدّق حماس”: المعنى السياسي لا الأخلاقي العبارة التي تتردد في تسريبات واشنطن، بأن الإدارة الأميركية "تصدق حماس” في بعض ادعاءات خروقات الهدنة، لا ينبغي فهمها كحكم أخلاقي على طرفين، بل كإشارة إلى ميزان أولويات. إدارة ترامب تريد تثبيت وقف إطلاق النار كجزء من إرث "السلام”، وأي عملية إسرائيلية تُظهر الهدنة في حالة انهيار تُحرج البيت الأبيض وتضعف قدرته على فرض المرحلة الثانية. من هنا تأتي الحساسية الأميركية تجاه عمليات "تصفية أو استهداف” قد تُقدَّم إعلاميًا كخرق كبير، حتى لو بررتها إسرائيل باعتبارات أمنية. "التصديق” هنا يتحول إلى أداة ضغط تفاوضي: حين تشعر إسرائيل بأن الغطاء الأميركي ليس تلقائيًا، يضيق هامش المناورة، وتتحول المرحلة الثانية من خيار تفاوضي إلى استحقاق سياسي. وفي المقابل، حين تشعر حماس بأن هناك هامشًا أميركيًا قد يحمّل إسرائيل جزءًا من المسؤولية، تتشجع على شدّ الحبل في تفاصيل التنفيذ، مع الحرص على عدم تفجير المسار بالكامل. عقدة المرحلة الثانية: انسحاب، سلاح، ورهينة واحدة بحسب الرواية الإسرائيلية المتداولة، المرحلة الثانية تتضمن انسحابًا من مناطق محددة مقابل ترتيبات جديدة، بينما تربط إسرائيل الانتقال إليها بتفكيك سلاح حماس وبقضية رهينة لم يُحسم مصيرها. هنا تظهر معضلة كلاسيكية في حروب الهدنات: إسرائيل تريد ضمانات ملموسة قبل أي انسحاب إضافي. الوسطاء يريدون عبورًا سريعًا للمرحلة الثانية لمنع الانهيار. واشنطن تريد إنجازًا قابلًا للتسويق، لا "هدنة معلّقة” يمكن أن تنقلب إلى حرب تُحرج الرئيس. في هذا التعارض، تتحول قضية فردية – رهينة أو جثمان – إلى رافعة سياسية تُعلّق عليها القرارات الكبرى، لا لأنها جوهر الصراع، بل لأنها أسهل اختبار علني للالتزام والنية. قوة التثبيت الأمني (ISF): فكرة جذّابة وألغام مؤجلة فكرة إنشاء قوة "تثبيت/استقرار أمني” في غزة تبدو، على الورق، حلًا تقنيًا لمعضلة سياسية. مشاركة عشرات الدول في نقاشات تخطيطية تعطي انطباعًا بتدويل مضبوط للهدوء. لكن التجارب السابقة تقول إن هذه القوى تنهار عند أول اختبار إذا لم تُحسم أربعة ملفات: قواعد الاشتباك، التمويل طويل الأمد، الشرعية المحلية داخل القطاع، وطبيعة العلاقة مع إسرائيل. الحديث عن صعوبات التمويل وعدم وضوح قواعد التشغيل ليس تفصيلًا إداريًا، بل مؤشر إلى أن المشروع قد يبقى إطارًا سياسيًا للضغط والتسويق أكثر من كونه قوة قابلة للحياة سريعًا. تركيا بين المشاركة والاعتراض التحفظ الإسرائيلي التقليدي على دور تركي مباشر في غزة يعود إلى تصور أنقرة لاعبًا قادرًا على ترجيح كفة سياسية ومعنوية لصالح حماس. في المقابل، ترى واشنطن أن إدخال تركيا ضمن قواعد أميركية قد يحوّلها من عنصر منافسة إلى شريك مُقيَّد بسقف تفاوضي. أما عزلها تمامًا، فقد يدفعها – وفق مخاوف متداولة – إلى تعطيل مبادرات إرسال قوات أو تمويل، أو إلى خلق مسارات موازية تُربك المشهد. لبنان: هدنة لا تعني سلامًا الانتقال إلى الجبهة الشمالية ليس استطرادًا. عندما تتعثر غزة سياسيًا، يصبح الشمال ورقة ضغط أو مسرح انزلاق. الحديث المتداول عن مهلة أميركية مرتبطة بملف سلاح حزب الله، يُفهم في إسرائيل على أنه إنذار، وفي لبنان على أنه عبء يفوق قدرة دولة ضعيفة وجيش يتحسن تدريجيًا لكنه عاجز عن تفكيك تنظيم متجذر بسرعة. في واشنطن، حتى مع تفهّم الهواجس الإسرائيلية، يبقى الدافع الأساسي منع انفجار واسع يُسقط صورة "إغلاق الملفات”. لذلك قد نرى ترددًا في دعم حرب كبيرة، مقابل إدارة أزمة عبر عمليات محدودة ورسائل ردع. سوريا: منطقة منزوعة السلاح أم منطقة نفوذ؟ الملف السوري يعكس صراع "الشروط المتقابلة”: دمشق تربط أي ترتيب بانسحاب، وإسرائيل تربط الانسحاب بترتيبات أمنية عميقة. في الخلفية قراءة أميركية ترى في تثبيت مسار مع دمشق وسيلة لمنع دفعها نحو محاور منافسة، مقابل شك إسرائيلي عميق في اتجاهات النظام الانتقالي. حتى فكرة تزويد سوريا بالغاز – إن طُرحت – ليست اقتصادية فقط، بل محاولة لربط الاستقرار بسلسلة مصالح، أي "السلام عبر الحوافز”. نتنياهو في واشنطن: مهمة بثلاثة عناوين مهمة نتنياهو في واشنطن ستكون ثلاثية: إقناع ترامب بأن إسرائيل لم تُفشل الهدنة، طلب مساحة مناورة محدودة للرد على الخروقات، وتقليص ثمن المرحلة الثانية عبر ضمانات أو آليات دولية. في المقابل، سيحاول ترامب تثبيت قاعدة بسيطة: "أنا أغلقت الملف، فلا تفتحه”. هنا يتجسد التوتر الحقيقي بين منطق إدارة الحرب ومنطق تسويق السلام. ما يجري ليس ضغطًا أميركيًا على إسرائيل فحسب، ولا انحيازًا لطرف على حساب آخر، بل إعادة ترتيب للأولويات: واشنطن تريد مسارًا سريعًا قابلًا للتسويق، إسرائيل تريد ضمانات ثقيلة، الوسطاء يريدون منع الانهيار، والجبهات الأخرى تتحول إلى ساحات اختبار لمدى قدرة واشنطن على منع "إعادة فتح الملفات”. خطورة هذا المشهد أنه قد ينتج هدنة تتقدم سياسيًا وتتراجع ميدانيًا: اتفاقات على الورق واحتكاكات على الأرض، إلى أن يفرض حادث واحد قرارًا قاسيًا. فالمنطقة لا تدخل سلامًا… بل تدخل إدارة سلام، والفارق بينهما قد تحدده رصاصة واحدة أو توقيع واحد. .