التحديث السياسي في الأردن: الرهان على جودة الممارسة

يمرّ الأردن بمرحلة مفصلية من تاريخه السياسي، عنوانها الأبرز منظومة التحديث السياسي التي أُطلقت بوصفها مشروعًا وطنيًا شاملًا يهدف إلى تطوير الحياة السياسية، وتعزيز المشاركة الشعبية، وبناء نظام حزبي وبرلماني قادر على الإسهام الفاعل في صناعة القرار العام. وفي قلب هذا المشروع الإصلاحي، تبرز جودة العمل السياسي باعتبارها العامل الحاسم في تحويل النصوص والتشريعات إلى ممارسة سياسية حقيقية قادرة على إحداث أثر ملموس في السياسات العامة. إن منظومة التحديث السياسي لم تأتِ بمعزل عن الواقع الأردني، بل جاءت استجابة لجملة من التحديات المتراكمة، أبرزها ضعف المشاركة السياسية، وتراجع الثقة بين المواطن والمؤسسات، وهيمنة العمل الفردي على حساب العمل البرامجي. ومن هنا، ركزت المنظومة على إعادة بناء الحياة السياسية على أسس مؤسسية، من خلال قوانين انتخاب وأحزاب حديثة، تهدف إلى إنتاج برلمان قائم على الكتل والبرامج، لا على الأفراد والمصالح الضيقة. غير أن نجاح هذه المنظومة لا يُقاس بسنّ القوانين وحدها، بل بمدى جودة العمل السياسي الذي يُمارس في ظلها. فالقوانين، مهما بلغت دقتها، تبقى إطارًا نظريًا إذا لم تُرفد بممارسات سياسية رشيدة تتسم بالكفاءة والنزاهة والقدرة على الحوار وصياغة الرؤى الوطنية. وهنا تتجلى أهمية تطوير الثقافة السياسية، والانتقال من منطق المعارضة الشكلية المصحوبة بسلوكيات فوضوية أو ولاءات ضيقة، إلى منطق العمل الحزبي المسؤول القائم على البرامج والحلول. وتنعكس جودة العمل السياسي بشكل مباشر على صياغة السياسات العامة في الأردن، فالأحزاب السياسية البرامجية تشكل قناة أساسية لنقل مطالب المجتمع إلى مراكز صنع القرار، كما تتيح للسلطة التشريعية مناقشة السياسات الحكومية بعمق، وتقييم أثرها الاقتصادي والاجتماعي، وكلما كان العمل السياسي ناضجًا ومنظمًا، أصبحت السياسات العامة أكثر استنادًا إلى الأدلة والدراسات، وأكثر قدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. وفي هذا السياق، تبرز قضايا وطنية رئيسة مثل التشغيل والبطالة، والإصلاح الاقتصادي، وتحديث القطاع التعليمي، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية، كمؤشر عملي على مدى فاعلية منظومة التحديث السياسي، ومدى قدرة الاحزاب البراميجية على معالجة هذه القضايا ضمن مشاريع وطنية تخدم متطلبات المواطن، فهذه القضايا لا يمكن معالجتها عبر قرارات آنية أو حلول جزئية، بل تتطلب حوارًا سياسيًا معمقًا، تشارك فيه الأحزاب والبرلمان والحكومة ضمن رؤية وطنية مشتركة، وهو ما تسعى منظومة التحديث إلى ترسيخه. كما تسهم جودة العمل السياسي، في إطار التحديث السياسي، في إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. فحين يشعر المواطن بأن العملية السياسية تتيح له مشاركة فعلية، وأن صوته ينعكس في السياسات العامة، تزداد درجة الانخراط السياسي وتتراجع حالة العزوف واللامبالاة. ويقع على عاتق الأحزاب السياسية دور محوري في هذا السياق، يتمثل في دمج المواطنين المنتسبين إليها في تنفيذ برامجها ومبادراتها، والمشاركة في لجانها الداخلية، وعدم حصر دورهم في الحضور الشكلي أو التحشيد الانتخابي، بما يعزز الشفافية الحزبية ويضمن استدامة الإصلاحات. ولا يمكن إغفال الدور الحيوي لمجلس الأمة في هذا المسار؛ إذ يشكل البرلمان ساحة مركزية لتجسيد أهداف منظومة التحديث السياسي. فبرلمان قائم على كتل حزبية واضحة يمتلك القدرة على التشريع والرقابة، يشكّل رافعة حقيقية لتحسين جودة السياسات العامة وضمان اتساقها مع الأولويات الوطنية وتطلعات المواطنين. كما أن تسهيل دور الأحزاب البرلمانية في تنفيذ برامجها داخل مجلس النواب يضمن استمرارية تطوير البرامج الحزبية، ويعزز التنافس البرامجي المسؤول داخل قبة البرلمان بما يخدم الصالح العام. وأخيرًا، يمكن القول إن منظومة التحديث السياسي في الأردن تمثل فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للعمل السياسي بوصفه أداة بناء لا ساحة صراع. غير أن اغتنام هذه الفرصة يبقى مرهونًا بالالتزام بجودة العمل السياسي، أخلاقيًا ومهنيًا وبرامجيًا. فكلما ارتقى الأداء السياسي المؤسسي الرشيد، أصبحت السياسات العامة أكثر كفاءة وعدالة وفاعلية، وأكثر قدرة على تحقيق التنمية والاستقرار، وبناء دولة القانون والمؤسسات التي ينشدها الأردنيون اليوم وغدًا. .