مقدمة لم تعد ثقافة «انسخ وألصق» (Copy & Paste) مجرد ممارسة تقنية عابرة، بل تحوّلت إلى نمط ثقافي ومعرفي خطير ساهم في انخفاض غير مسبوق في معدلات القراءة، وانحدار مستوى التعليم في مختلف مراحله، ولا سيما الجامعية. وقد تزامن هذا التحول مع الانتشار الكاسح لوسائل التواصل الاجتماعي، وتسارع إيقاع الحياة الرقمية، ثم جاء التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليضاعف الأزمة، لا لكونه خطراً بحد ذاته، بل بسبب غياب الوعي التربوي والثقافي في توظيفه، فأصبح النسخ بديلا للإعمال الفكري لا رديفا له. النتيجة كانت إقصاءً تدريجياً للعقل البشري، وتراجعاً في التحليل الفكري، وضموراً في دور المثقفين والمفكرين المؤثرين، لصالح محتوى سريع جاهز مكرر لا يسمن ولا يغني من جوع. من القراءة إلى الاستهلاك: كيف تغيّرت العلاقة مع المعرفة؟ الأصل في القراءة،التي تعتبر نشاطا إنسانيا بحتا، ان تكون فعلاً ذهنياً عميقاً يتطلب تركيزاً وتأملاً وإعادة بناء للمعنى. أما اليوم، فقد تحوّلت القراءة إلى عملية استهلاك سريع لمقاطع مختصرة، وعناوين جذابة، ونصوص جاهزة يعاد تداولها بلا تمحيص. هذا التحول أضعف القدرة على الفهم المركب والتحليل النقدي والربط بين الأفكار وإنتاج معرفة جديدة وأنتج أجيالاً تجيد الوصول إلى المعلومة، لكنها تعجز عن امتلاكها او الإحتفاظ بها وتحليلها والإستفادة منها. وهنا استذكر ما كنت اقوله للطلاب الذين كنت ادرسهم طوال خمسة عشر عاما قضيتها استاذا جامعيا بأن يُعْمِلوا فكرهم بكل ما يتعلموه ويربطوه بالواقع وأن لا تكون ادمغتهم كأواني "التيفال" التي لا تلصق أبدا! التعليم الجامعي في مهب النسخ واللصق في كثير من الجامعات، باتت الأبحاث والتقارير تُنجز عبر النسخ المباشر أو عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، دون فهم أو مساءلة. ويعود ذلك إلى نظم تقييم تركز على المنتج الكمي لا على عملية التفكير، وإلى غياب التدريب على البحث العلمي والأمانة الأكاديمية، وضعف ثقافة القراءة والتحليل. فأصبحت الشهادة او الدرجة العلمية او المرتبة الأكاديمية في حالات كثيرة منفصلة عن المعرفة الحقيقية، وأضحى التعليم شكلاً بلا مضمون. واصبحنا نرى الآلاف من الأبحاث العلمية المنشورة شبه المكررة التي لاتساهم في حل المشكلات ولا تشكل قيمة إضافية، اي كما يقال في الأمثال "تسمع جعجعةً ولا ترى طحنا". وهذه ظاهرة اصبحت منتشرة في الكثير من الجامعات في العالم ومنها الأردن. وقد حذر منها وزير التعليم العالي والبحث العلمي في الأردن قبل عدة شهور حين صرح عن عدم رضاه عن تصنيف جميع الجامعات الأردنية في مؤشر نزاهة البحث العلمي الصادر حديثاً، والذي كشف عن وجود سرقات وتزوير في الأبحاث العلمية، بالإضافة إلى الاعتماد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ولكنه لم يطور استراتيجية او برنامج وطني لمواجهة هذا التحدي العلمي الهام. ولعل هذا المقال يقدم بعض الخطوط العريضة لإصلاح المنظومة التعليمية والعلمية في المملكة ويحد من ثقافة النسخ واللصق. التذويت المعرفي: البديل الجذري لثقافة النسخ في مواجهة هذا الواقع، يبرز مفهوم "التذويت المعرفي" Knowledge Internalization بوصفه مدخلاً فكرياً وتربوياً عميقاً لإعادة الاعتبار للعقل الإنساني. والتذويت المعرفي يعني تحويل المعرفة من مادة خارجية منقولة إلى خبرة داخلية مُدركة، يتم فهمها وتحليلها وربطها بالسياق الشخصي والاجتماعي، ثم إعادة إنتاجها بأسلوب الفرد ورؤيته. وهو نقيض مباشر لثقافة «انسخ وألصق»، لأنه يقوم على: الفهم قبل النقل، والتحليل قبل التكرار، والمعنى قبل الشكل او الكم، والسؤال قبل الإجابة.المعرفة التي لا تُذوَّت تبقى سطحية، وسرعان ما تتحول إلى مادة للنسخ أو النسيان او الذوبان او التلاشي. كيف نُدمج التذويت المعرفي في مواجهة الجمود الفكري؟ أولاً: المناهج… من التلقين إلى بناء المعنى إعادة تصميم المناهج لتُبنى حول أسئلة كبرى ترتبط بقضايا حية معاشة لا حول نصوص مغلقة. ربط المحتوى التعليمي بواقع الطالب ومجتمعه وقضاياه. إدخال أنشطة تحليلية تُجبر الطالب على إعادة صياغة المعرفة وفهمها بلغته الخاصة. ثانياً: التقييم بوصفه أداة للتفكير لا للفرز استبدال جزء من الامتحانات التقليدية بأوراق تفكير وتحليل ودراسات حالة محلية ومشاريع تطبيقية فردية وتقييم منهجية التفكير والاستدلال. ثالثاً: القراءة كفعل تحليلي ونقدي الانتقال من اقرأ لتلخص" إلى "اقرأ لتفهم ثم تنتقد"، وتكليف الطلبة بكتابة آرائهم وأسئلتهم لا مجرد إعادة ما كُتب، وإنشاء نوادي قراءة مدرسية وجامعية ومجتمعية تُناقش الأفكار لا النصوص فقط. رابعاً: الذكاء الاصطناعي في خدمة التذويت لا ضده بدلاً من منعه أو تركه بلا ضوابط، يجب: توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة أولية، إلزام الطالب او الباحث بتحليل ما ينتجه الذكاء الاصطناعي ونقده وإعادة بنائه، و تعليم مهارات التحقق، والمقارنة، والتفكير الأخلاقي الرقمي. فالخطر لا يكمن في التقنية، بل في تعطيل او تحييد العقل أمامها. خامساً: المعلم بوصفه محفّزاً للتذويت ضرورة تأهيل المعلمين وأساتذة الجامعات والمدربين ليكونوا موجّهين للأسئلة لا ناقلين للإجابات، وتشجيع النقاش وتعدد وجهات النظر والخطأ بوصفه مرحلة تعلم، وبناء بيئة تعليمية وتدريبية تحترم التفكير لا التلقين، وخلق بيئة نقاش تفاعلية تشجع الطلاب والمتدربين على إثارة الأسئلة. المثقف في زمن النسخ: ضرورة استعادة الدور ثقافة «انسخ وألصق» همّشت المثقف الحقيقي، لأنه بطبيعته بطيء، نقدي، عميق، في زمن يقدّس السرعة والأجوبة الجاهزة. لكن المجتمعات لا تتقدم بالمحتوى السريع وحده او الوجبات الفكرية الجاهزة، بل بالأفكار التي تُذوَّت، وتُنضج، وتُحوَّل إلى وعي عام وسياسات رشيدة. وفي الختام، إن أزمة «انسخ وألصق» ليست أزمة تعليمية فحسب، بل أزمة علاقة الإنسان بالمعرفة والتفكير الخلاق. والخروج منها لا يكون بالتجريم ولا بالرقابة التقنية وحدها، بل بإعادة بناء هذه العلاقة على أساس التذويت والتفاعل المعرفي. حين يفهم ويحلل الطالب او المتدرب او الباحث ما يقرأ او يسمع او يشاهد وما تقدمه محركات البحث الذكية وغير الذكية، ويعيد إنتاج المعرفة بوصفها جزءاً من وعيه، ينتهي عصر النسخ…ويختفي دماغ "التيفال" الذي لا يلصق أبدا! ويعود عصر الفكر والمعرفة ويبدأ التفاعل العلمي الحقيقي الذي يواجه تحديات المجتمع ويرفع من شأن الدولة. .