"الواسطة"… شفاعة محرّمة

في كل دولة تسعى إلى الإصلاح، هناك معارك لا تقل خطورة عن مواجهة الفساد المالي أو الإداري. وفي أردننا العزيز، يقف جلالة الملك عبد الله الثاني في مواجهة مباشرة مع ظاهرة "الواسطة"، التي وصفها بأنها تُقوّض الإنجازات وتعيق التقدّم، وعلى خطى جلالته، أكد رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان مراراً أن الأردن يحترم كفاءاته ويحافظ عليها، وأن الفرص يجب أن تكون للأكفاء وحدهم لكن يا دولة الرئيس، ما يجري على أرض الواقع يختلف تماماً عن هذه المبادئ، بعض المسؤولين فهموا مناصبهم على أنها تشريف لا تكليف، وتحكم لا خدمة، وكأن الوظيفة العليا امتياز شخصي وليست مسؤولية عامة، وهذا يتناقض مع نهجكم الذي عرفناه منذ توليكم مهامكم كرئيس وزراء يعمل في الميدان ويتابع القضايا صغيرها وكبيرها. لقد تسللت الواسطة إلى مؤسساتنا منذ زمن، لكنها اليوم باتت أكثر استفحالاً، حتى وصلت الجرأة ببعض المسؤولين إلى حد القول علناً إن الحصول على وظيفة عامة يتطلب واسطة مؤثرة، هذا الاعتراف لم يعد همساً في الكواليس، بل أصبح واقعاً يعيشه الأردنيون، ويشكّل طعنة في قلب العدالة وتكافؤ الفرص. والأخطر أن الأمر لم يقف عند الصف الأول من المسؤولين، بل امتد إلى الصف الثاني، الذي شعر بأهمية زائفة، فصار يتصرف وكأنه صاحب القرار، يقرر من يستحق الوظيفة ومن لا يستحقها، ويمنح الفرص لأصدقائه وخاصته، وكأن مؤسسات الدولة ملك شخصي وليست ملكاً عاماً. يا دولة الرئيس، إن "الواسطة" تغلق الأبواب أمام الكفاءات وتفتحها أمام العلاقات الشخصية. ليكتشف الأكفاء أن طريق الوظيفة العامة لا يُرسم بالجدارة وحدها، بل كثيراً ما يُرسم بـ"الواسطة"، فما حال من لا يملكها، ويعتمد على علمه وعمله وخبراته؟!. "الواسطة" لا تظلم فرداً بعينه، بل مجتمعاً بأكمله، فهي تُقصي أصحاب الكفاءة، وتُضعف المؤسسات، وتحوّل الوظيفة العامة من أداة خدمة إلى غنيمة شخصية، والأسوأ أنها تدفع الناس إلى فقدان الأمل، بل وإلى الشعور بالغربة في وطنهم، لأنهم يرون أن الجدارة لم تعد معياراً، وأن الولاء الحقيقي لم يعد مكافأً. دولة الرئيس، إن الأردنيين لا يطلبون المستحيل، ولا يسعون إلى امتيازات خاصة، بل يطالبون فقط بالعدالة التي تحفظ كرامتهم وتعيد الثقة بينهم وبين دولتهم، وإن استمرار هذه الظاهرة يقتل الأمل في النفوس، ويجعل المستقبل مرهوناً بعلاقات لا يملكونها لا بجهدهم ولا بعلمهم. نحن بحاجة إلى موقف صريح وحاسم منكم، يضع حدّاً لهذه الظاهرة، ويعيد الاعتبار للكفاءة، ويمنح أبناء الوطن المخلصين حقهم الطبيعي في أن يكونوا شركاء في بناء الدولة، فالأردني د يستحق أن يرى ثمرة إخلاصه، لا أن يُقصى لصالح من يملك واسطة أو نفوذاً. إنها ليست معركة إدارية فحسب، بل معركة أخلاقية وإنسانية، لأن العدالة هي ما يُبقي المواطن متجذراً في وطنه، مؤمناً بدولته، ومستعداً للتضحية من أجلها، وإذا أُغلقت أبواب الواسطة وفُتحت أبواب العدالة، ولو بحدها الأدنى، فإن الأردنيين سيجدون في دولتهم حضناً حقيقياً، وسيبقى ولاؤهم راسخاً مهما اشتدت الأزمات. .