لماذا فشل المثقف العربي في إزعاج السلطة؟ #عاجل

كتب د. معن علي المقابلة - ليس غياب الحرية وحده ما يفسر هشاشة دور المثقف العربي المعاصر، بل غياب الوظيفة. فالمثقف اليوم حاضر بكثافة في الإعلام، غزير الإنتاج في الجامعات، وواسع الانتشار في الفضاء الرقمي، لكنه قليل الأثر. والسؤال الحقيقي ليس: لماذا يُقمَع المثقف؟ بل: لماذا لم يعد مقلقًا بما يكفي ليُقمَع؟ في التاريخ العربي الإسلامي، لم يكن العالم ترفًا ثقافيًا ولا زينة سلطانية، بل فاعلًا في معركة المعنى. وقف أحمد بن حنبل في وجه سلطة حاولت احتكار العقيدة، لا بالسلاح ولا بالشعار، بل برفض أن تتحول الدولة إلى مرجع للحقيقة. وأعاد العز بن عبد السلام تعريف السلطة نفسها، حين أخضع القوة لمعيار الشرعية والمصلحة العامة. أما ابن تيمية، فقد خرج من دور الواعظ إلى دور المحرّض على المقاومة حين داهم الخطر الوجودي المجتمع. بينما اختار ابن خلدون، في لحظة الانهيار، أن يفكك منطق السلطة بدل أن يتغنى ببطولة مستحيلة. ما يجمع هؤلاء ليس الاتفاق، بل الاشتباك. لقد دفعوا ثمن مواقفهم: سجنًا، نفيًا، عزلة، أو تشكيكًا. أما المثقف العربي المعاصر، فقد جرى إدماجه في بنية لا تعاقبه لأنه ناقد، بل تكافئه ما دام نقده بلا أثر. في الإعلام العربي، يُستضاف المثقف لا ليُنتج معرفة، بل ليُدلي برأي. والرأي سلعة سريعة، لا تُحاسَب ولا تُتبع بفعل. يتحول النقد إلى فقرة، والمعارضة إلى دور تمثيلي، والمثقف إلى معلق دائم على ما لا يستطيع تغييره. هكذا يُفرغ الخطاب من قوته، لا بالمنع، بل بالتكرار. أما في الجامعات، فقد جرى فصل المعرفة عن المجتمع. الأستاذ يُقيَّم بعدد الأبحاث لا بقدرتها على إحداث تغيير، ويُكافأ على الالتزام بالسقف المؤسسي لا على اختباره. المعرفة هنا مهنية، لا أخلاقية؛ تقنية، لا اشتباكية. وهكذا تفقد الجامعة دورها بوصفها ضمير المجتمع، وتتحول إلى مصنع صامت للخبراء. وفي فضاء النخب الثقافية، تتكرر المشكلة بشكل آخر. نخبة تتحدث باسم المجتمع دون تفويض، وتدين السلطة دون أن تواجهها، وتعيش في دائرة مغلقة من الاعتراف المتبادل. إنها نخبة تملك لغة النقد، لكنها تفتقر إلى قاعدته الاجتماعية. لذلك لا تخيف السلطة، ولا تحرك المجتمع. المشكلة إذن ليست في نقص الشجاعة الفردية، بل في تحييد المثقف بوصفه سياسة. فحين يُسمح له بالكلام دون فعل، وبالظهور دون مخاطرة، وبالنقد دون تنظيم، يتحول إلى جزء من المشهد لا مصدر تهديد له. استعادة دور المثقف لا تعني استنساخ نموذج العالم القديم، ولا الدعوة إلى وصاية فكرية جديدة، بل استعادة السؤال الجذري: من يملك حق تعريف المعنى في المجتمع؟ حين يفقد المثقف هذا السؤال، يفقد سبب وجوده. المثقف ليس من يرفع صوته أكثر، بل من يجعل السلطة أقل راحة. وحين يعجز المثقف العربي عن ذلك، لا يعود ضحية القمع فقط، بل شاهدًا على تآكله الذاتي. .