حين يبحث النهار عن أصحابه

مع أول ضوء في المدينة، لا يظهر الصباح بريئًا كما يبدو. ثمة شباب يستقبلونه من خلف نوافذ مفتوحة على الاحتمال، لا على اليقين. يمتلكون القدرة، والرغبة، والاستعداد، لكن الطريق لا يتقدم نحوهم. هنا يتبدّى الخلل: ليس في طموحهم، بل في المسافة بين ما يستطيعونه وما يُتاح لهم. فالوطن الذي لا يهيّئ لشبابه مسارًا للعمل، يشبه أرضًا تعرف الخصوبة لكنها لا تعرف الريّ. الأمل موجود، لكن شروط تحققه غائبة. مع المساء، تخفت الأصوات وتعلو الأسئلة. البطالة لا تظهر عند الغروب كظاهرة اقتصادية فقط، بل كحالة نفسية واجتماعية تعيد تشكيل البيوت من الداخل. إنها ليست غياب وظيفة، بل تعليق للحياة في منطقة انتظار طويلة، حيث تتآكل الثقة قبل أن تتآكل الموارد. حين يفقد العمل معناه، لا يخسر الإنسان دخله فقط، بل يخسر إحساسه بالمشاركة. فالمجتمع لا يتفكك حين يقلّ المال، بل حين يتلاشى الشعور بالجدوى. هنا تتحول البطالة إلى مرآة لخلل أعمق: خلل في العلاقة بين الجهد والمكافأة، بين التعليم والواقع، بين الدولة ومواطنيها. ليست الأزمة في نقص الفرص وحده، بل في بنية لا تُنتجها. تعليم يُراكم المعرفة دون أن يمنحها قابلية للحياة، واقتصاد يُدير الندرة بدل أن يوسّع الإمكان، وثقافة توظيف تخاف من الجديد لأنها لم تتصالح بعد مع التغيير. في هذا الفراغ، يجد الشاب نفسه مؤهّلًا بلا مكان، حاضرًا بلا دور. الحل لا يكمن في وعدٍ بتوظيف شامل، لأن ذلك وهم إداري. الحل يبدأ حين يُفهم العمل كمنظومة لا كمنصب، وكبيئة تُبنى لا كفرصة تُمنح. بيئة تجعل المبادرة ممكنة، والمخاطرة محسوبة، والكرامة غير قابلة للمساومة. حين يُعاد تنظيم الأجور باعتبارها اعترافًا بالقيمة لا مجرد رقم، وحين تُرفع العوائق عن المشاريع الصغيرة بوصفها مختبرات اجتماعية للإنتاج، وحين يُربط التمويل بالمعرفة لا بالحاجة فقط، يبدأ التحوّل الحقيقي. فالقروض بلا وعي تُنتج عجزًا جديدًا، بينما الإرشاد يحوّل الفكرة إلى مسار. ريادة الأعمال، في معناها العميق، ليست بطولة فردية، بل شبكة أمان تسمح للفشل أن يكون مرحلة، لا نهاية. وهي لا تزدهر إلا حين تتغير القوانين من حراسة الماضي إلى استقبال المستقبل، وحين تشتري الدولة من الصغار كما تعترف بالكبار، لأن السوق العادل هو الذي يوسّع المشاركة لا الاحتكار. في هذه اللحظة، يتغير موقع الشاب في المعادلة: من منتظر إلى فاعل، ومن عبء مُفترض إلى طاقة مُحرّكة. لا لأن المسؤولية أُلقيت على عاتقه، بل لأن النظام اختار أن يعمل معه لا فوقه. البطالة ليست قدرًا جغرافيًا، بل نتيجة اختيارات. وحين تتغير الاختيارات، يتغير المسار. كل شاب عاطل هو احتمال مؤجّل، وكل سياسة ذكية هي دعوة لهذا الاحتمال كي يتحقق. وفي النهاية، لا تُقاس نهضة الأوطان بعدد الوظائف فقط، بل بعدد الأرواح التي استعادت ثقتها بأن العمل ليس عقابًا، بل معنى. وحين يصبح الشباب في قلب السياسات، لا على هامشها، يعود النهار ليكون لهم… لا عليهم. . .