تتراءى اليوم ملامح «الزلزال الاستراتيجي» الذي يضرب القارة العجوز كحقيقة جيوسياسية عارية، حيث تعيش أوروبا لحظة انكشاف تاريخي مرير بعدما قررت الإدارة الأمريكية، ببراغماتية قاسية، سحب الغطاء الاستراتيجي الذي ظل يظلل القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تاركة إياها في مواجهة عواصف لم تعد تجيد الملاحة في خضمّها. إن هذا الامتحان العسير الذي تجتاز مخاضه العواصم الأوروبية اليوم لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج عقود من الركون إلى «الأمن المستعار» والاتكال المطلق على المظلة الأطلسية، ليأتي الارتطام بالواقع مروعاً ومباغتاً لقارة لم تستعد مؤسساتها ولا ذهنية شعوبها لمثل هذه المواجهة الوجودية. وما يزيد من وطأة هذا المخاض أنه يأتي في أسوأ الظروف الممكنة، حيث تتكالب الأزمات الاقتصادية الهيكلية مع ضغوط تضخمية خانقة، وتتصاعد لغة الحمائية التجارية التي تترجمها الرسوم الجمركية الأمريكية العقابية، لتتحوّل القارة من حليف مدلل إلى ساحة مكشوفة للتنافس الجيواقتصادي الشرس الذي لا يرحم الضعفاء. وفي قلب هذا المعترك، تحاول فرنسا جاهدة، عبر مراجعتها الاستراتيجية لعام 2025، نفخ الروح في مفهوم «اقتصاد الحرب» والسيادة الأوروبية، إلا أن هذه المحاولات تصطدم بواقع التشرذم السياسي الداخلي وتآكل القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي الذي بات يرزح تحت وطأة ميزانيات تقشفية لإطعام آلة الحرب وتحديث الترسانات الدفاعية في زمن لم تعد فيه الرفاهية خياراً متاحاً. إن المشهد يبدو كمن يحاول بناء سد عظيم بينما المياه تتدفق من كل جانب، فالتحوّل نحو الاستقلال الاستراتيجي يتطلب وقتاً وموارد وإرادة صلبة، وهي عناصر تبدو شحيحة في سوق السياسة الأوروبية الراهنة التي تعاني من صعود التيارات الشعبوية وتفكك التضامن القاري، مما يجعل كل خطوة نحو الأمام مثقلة بأصفاد الخلافات البينية العميقة. ومع اشتداد حدة الصراعات على تخوم أوروبا وتحوّل القوى الكبرى نحو صياغة خرائط نفوذ جديدة لا تعير وزناً كبيراً للقيم الأوروبية التقليدية، تجد القارة نفسها في حالة من «العراء الاستراتيجي» الذي يهدّد مكانتها التاريخية واستقرارها المستقبلي.إن المقاربة الفرنسية الطموحة، رغم رصانتها وضرورتها، تظل تسبح في بحر من الشكوك، إذ لا يمكن اختزال عقود من التبعية في سنوات قليلة من التحوّل الصناعي والعسكري المفاجئ، لاسيما أن التحديات الأمنية تتسارع بوتيرة تفوق قدرة البيروقراطية الأوروبية على الاستجابة. والأسوأ من كل ذلك، وهو الحقيقة التي يخشى الجميع الجهر بها في أروقة بروكسل وباريس، أنه لا توجد أي ضمانات حقيقية لنجاح أوروبا في هذا الامتحان العسير؛ فبينما تحاول القارة لملمة شتاتها وبناء سيادتها من الركام، يبدو أن الزمن لم يعد يعمل لصالحها، وأن الفجوة بين الطموحات السيادية والواقع الميداني والمالي تتسع لدرجة قد تجعل من «الاستقلال الاستراتيجي» مجرد صرخة متأخرة في وادٍ سحيق، مما يترك مستقبل القارة العجوز معلقاً على حافة المجهول، في انتظار قدر قد لا تملك هي خيوط صناعته، لتظل مجرد شاهد على تحوّلات كبرى تقررها قوى أخرى وراء المحيطات وفي أعماق القارة الآسيوية.