عاد كما عاد كثيرون ، محملا بالوجع ، مثقلا بالألم ،ومحمولا -رغم كل شيء -بالكثير من الأمل . لم تثنه المسافات البعيدة، ولا وعورة الطريق، ولا خسارة عائلته عن العودة الى بيت لم يعد بيتا ، بيت بلا أبواب ، نوافذه كلها مفتوحة على المجهول . كان يدرك تماما ان ما قد يراه يفوق قدرته على حمله ،فظهره لم يعد قويا كما كان. وصل اخيرا الى المكان الذي كان يوما بيته الجميل ، ذاك الذي غادره مرغما حاملا ابناءه الخمسة ، بعد ان أسلمت أمهم الروح فيه . وقف في منتصف الركام ، وأغمض عينيه ، لم يعد ينظر ، بل أخذ يتلمس البيت بقلبه ، يحاول ان يستعيد رائحة الورد الذي زرعته المرحومة في فناء الدار . ذلك العطر الذي كان يسبقها في الحضور ، والذي يبدو الآن كما لو انه يختنق تحت غبار الخراب . عاد مع مليون ونصف المليون مهجر الى شمال قطاع غزة ، بعد وقف اطلاق النار ، ليفاجأوا بحجم الدمار الهائل الذي طال مدنهم واحياءهم وقراهم . لم يصلوا الى الشمال من بيوتهم ، بل من رحلة نزوح طويلة ، تغير فيها المكان مرات ، وتآكل فيها الجسد قبل أن يواجه البرد . ظنوا ان الحرب انتهت بوقف النار ، ليكتشفوا ان الحرب لم تغادر " رغم الانتهاكات " ، بل غيرت ثيابها .وان الشتاء ، وهو أحد فصول العام ، ما هو الا استمرار للحرب بوسائل أخرى ، اذ أتى بكل قسوته على أجساد منهكة ، مثقلة بالألم ، ومجردة من الدفء. ان الظروف القاسية التي يعيشها المهجرون لم تكن وليدة اللحظة ، فالاكتظاظ الخانق ، والنقص الحاد في الغذاء والمياه والخدمات الأساسية ، الى جانب تفشي الأوبئة وغياب الرعاية الصحية والنفسية ، جاءت امتدادا لمعاناة طويلة مع التهجير . لم يكن البرد وحده ما ينهش أجسادهم ، فقد كانت الأيدي ممدودة ولا شيء يصل ، والشاحنات تنتظر خلف حدود لا تفتح ، والخبز مؤجل والدواء عالق ، وكأن النجاة بحاجة الى اذن . حتى الخيم التي وعدوا بها ملاذا مؤقتا ليست الا قطعا من القماش لا تصد ريحا ولا تحفظ دفئأ ، بل تعرضت العديد منها الى الغرق والانجراف ، وكان البرد قاتلا تسلل الى عظام الأطفال وفتك بهم وهم في أحضان امهاتهم . كل تأخير ، وكل وعد لم ينفذ يزيد من معاناة المهجرين ويضاعف الفقر والبرد ، بينما العالم يشاهد عن بعد دون أي شعور بالذنب ودون أي نزف للإنسانية والكرامة يظل صدى الوعود الدولية خافتا ، والوسطاء يتبادلون المواقف على المنابر والورق ، يناقشون ويخططون ، والتنفيذ معلق ، متجاهلين صراخ الأطفال ودموع الأمهات ، متعامين عن الواقع القاسي الذي يعيشه المحاصرين بلا حول ولا قوة . أما هو ، فقد عاد وحيدا يضم نفسه بذراعيه داخل خيمة متواضعة وسط الركام ترقص على وقع الريح ، يضربها المطر المنهمر بعنف ، يحاول أن يبقى صامدا وهو يغرق تحت وطأة الماء و الذكريات . ويظل السؤال قائما : متى ستنتهي معاناة من فقدوا كل شيء على مرأى العالم ، قبل ان يبتلعهم الشتاء والحصار ؟ .