فيلم «ستموت في العشرين».. وردة التزام للسينما الجادة

تفتح الشاشة على صحراء شاسعة يتوسط المشهد كائن ضخم نفق وغدا شارة للموت.. ومن أقصى الشاشة يتقاطر رجال ونساء لزيارة الشيخ للتطبب أو قشط الأيام لمعرفة المستقبل.. ومن المظاهر المبثوثة من خلال ومضات مشهدية تصل بعين أو عقلية المشاهد أنه في عالم صوفي بحت، وفي بيئية غارقة في النسيان، ليس لديه أي نوع من أنواع التواصل خارج تلك القرية، وهذا العالم عالم روائي أو قصصي يُغرم به كُتّاب الرواية، وأخال أن الروائي والقاص حمور زيادة استبطن عوالمه القصصية (النوم عند قدمي الجبل) استبطن عوالم الأسطورة في المجتمع البدائي ذلك العالم الذي يضج بالأسطرة وكل عجيب ساحر.. ويبدو أن ذلك العالم الجذاب وجد فيه المخرج أمجد أبو العلا متعة إظهار تفاصيل سحر المكان والحكاية أيضاً، حكاية تفتح صفحاتها على المدهش من البدء، حكاية تعج بالصور السينمائية لدرجة أن تلك الصور كانت هي المتزعمة للبطولة..صورة اختطفت الدهشة من تلك الرحلة الجماعية ذات الطقوس المتعددة، وكل صورة للشخصيات المنطلقة في مسيرتها تمثل مشهداً سينمائياً متفرداً بذاته.. وحين ظهرت الأم سكينة (إسلام مبارك) ثبتت وتد الحكاية، فقد جاءت لمباركة وليدها وتحنيكه من قبل الشيخ.. ومن هذه المشهدية السينمائية تفتك وعاء قصصي وأخذ في الجريان، هناك سُمي المولود باسم (مزمل) وجاءت نبوءة الشيخ أن ذلك المولود سوف يموت في العشرين من عمره.. وفي انتظار تحقق نبوءة الشيخ بدأت الكاميرا بجذب عين المشاهد، وفتحت أذنيه لالتقاط الجمل المذهلة، فقد كان الحوار (في الفيلم) مدعاة للإصغاء لكل جملة، وتقليبها في وجدانك، المشاهد تحول إلى صانع متعة لنفسه من خلال الجمل المنثورة هنا وهناك.. كل القرية تنتظر تحقق نبوءة الشيخ، ومزمل يعرف موعد موته ببلوغه العشرين، ويبدأ يستشعر باقترابه من الوقت المعلوم، وكمن يريد التأكد من الأيام يسأل أمه:هل الأيام التي قضيتها في بطنك تحسب من عمري؟ولأنه ابن الموت، كانت العيون منصبة على ممشاه، فأهل القرية يشاهدون ميتاً يسير على قدمين، ولأن ذاكرة الطفولة عجلة، قام أقرانه في الكتاتيب بتغطية جسد مزمل بالرماد وتكفينه، تلك الحادثة قصفت الأمل في ذاكرة مزمل، وثبتته ميتاً حياً، وبين رحى النبوءة والانتظار يهاجر الأب ولا يرد على رسائل زوجته، وهجرته محاولة لمحو وجوده في ذهنية ابنه، وهرب من رقة مشاعره التي لا تمكنه من رؤية ابنه يموت أمامه.. استشعر مزمل بأن الجميع ينتظر موته، وصارح والدته بجملة مقتضبة: ما أبغى أموت!سليمان صديق والده (محمود السراج) كان بوابته للدخول إلى الحياة بعدما تشارك الجميع في دفنه حياً، هذا الصديق يبدأ بفتح عين مزمل (مصطفى شحاته) للحياة، وكانت العين المفتوحة متمثلة في السينما والأغاني والحكايات التي تدور خارج القرية، ولعبت الحبيبة المفترضة نعيمة (بونا خالد) على فتق ذهنية مزمل بتكذيب النبوءة، ومحاولتها لجرة إلى الحياة من خلال حبها له، وكانت الحياة تمشي وحياة مزمل مربوطة في نبوءة قيلت ذات يوم حتى إن قائلها ارتحل من القرية للحج ولم يعد، إلا أن نبوءته مقيمة في ذهنية مزمل وأمه وبقية أهل القرية، وكانت هناك وصية من إحدى السيدات لسكينة الأم بالبحث عمن يبطل تلك النبوءة.. الهرب من القدر المفترض ألغى إحساس مزمل وأمه بجمال الحياة والعيش عيشة حقة.. وانسياقي خلف أحداث القصة ليس كسلوك النقاد الذين يسردون واقع الأحداث كما جاءت في الرواية، أعلم أن هذا السلوك هو سلوك الاختصار، اختصار كل شيء هو القاعدة المستحدثة في المجتمعات الراهنة، إذ إن الاختصار هو المستهدف، ولأن الاختصار هو المقصلة الحقيقية لأي جمال..تتبعي لأحداث الفيلم وذكر تفاصيل حكائية جاء من كون كل مشهد يمنحك المتعة السينمائية بتفاصيل بصرية، يتشارك فيه الحدث والحوار والصورة والموسيقى والممثلون، إذ إن تفاصيل وجوه الممثلين معزوفة بصرية في غاية الإلهام للحدث.وورود الماضي المجهول داخل القرية يجعله متحركاً لإحداث نقلة مستقبلية من خلال السينما لتكون نافذة مزمل حين يزور سليمان، ويمثل غناء محمد عبدالوهاب لوعةً لسليمان وفعلاً محركاً لمشاعر مزمل، وتتحول رقصة سامية جمال إلى مفتاح لرغبات مزمل التي تتحرك حينها.. نبوءة موته أُغلقت عليها منافذ الحياة، وكان سليمان المستمتع بجموح الحياة شراب ونساء وكفر بما عليه القرية، هو الدافع لتحريك الحدث، وتلعب ست النساء (أمل مصطفى) استكمال فورة الرغبة والانعتاق من النبوءة، وهو الدور الذي عجزت الحبيبة نعمة (ابنة خالد) عن إحداثه، وربما يكون زواجها هو الدافع للتغير والبحث عن الحياة بدلاً من انتظار الموت، كون من تزوج نعمة هو أحد الأفراد الذين دفنوه بالرماد حين كان صغيراً.هناك مشاهد بصرية كاملة الجمال متناثرة طوال امتداد الحكاية كلقطة الطرابيش الحمراء واللباس الأبيض واختلاط لباس الأسود لأم مزمل (سكينة)، عالم يفجر ذهنية المشاهد لإيقاظ حالة التنبه لما يحدث، ولقطة الحصانين والخشية من فقدهما، ولقطة حفل توديع الأم لابنها من خلال لقطة البخور، وهناك جُمل تفتح أبواب الفيلم وكأنها قيلت واندثر صاحبها بين المشاهد البصرية المتلاحقة: أنا ما عندي بكرة.ويتسلل ضوء الكُوة ما بين سليمان ومزمل: أنت حمار خائف.وحضور أغنية (زوروني كل سنة مرة) يجسد فيروز كباعثة للحياة، ومشهد المقبرة، وحفر قبر لمزمل يتحول إلى طلقة رصاصة حينما يدفن فيه سليمان..وبانفتاح مباهج الدنيا التي كان يرسمها سليمان، قرر مزمل اتباعها، يطرق الباب أو ينسل كعادته لبيت سليمان حين كانت ست النساء تنظر إليه ليس استغراباً وإنما توجس، فيطلق جملته لكسر باب البراءة، ليس لدي هدية أبغاك أنت.. وأعتقد أن الكاتب والمخرج معاً أرادا من مشهدية التقاء مزمل بست النساء تجسيداً لموت البراءة، فمات مزمل، والشاهد لذلك الموت التقاء مزمل وهو صغير بمزمل الخارج من رداء البراءة، فيضع مزمل الطفل أذنه على صدر مزمل الكبير فلا يسمع دقات قلب إنسان حي.. هو موت العشرين، موت التلوث من بوابة الجنس، لتكون هذه المشهدية هي جدل نفسي لدى المشاهد، هل الجنس أداة موت؟وحين تغلق الشاشة على ركض مزمل خلف باص منطلق إلى جهة غير معلومة، يكون ركض مزمل إلى حياة غير معروفة العواقب، فالحياة العشرينية انتظار في سجن قدرية العشرين، وحين خرج منها ميت الإحساس كانت الحياة القادمة غير معروفة الجهات.الفيلم وردة متفتحة على السينما الجادة والملتزمة، يفتح عقلية المشاهد لما هو مخبأ في أقدارنا.. فأقدارنا جميلة خلف الحجب ومتعبة بعد رفع تلك الحجب.