أعلنت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام صدور قرارات بحق عدد من الحسابات والأشخاص، بعد ثبوت نشرهم محتويات مخالفة لأحكام نظام المطبوعات والنشر ولائحته التنفيذية، شملت مواد تدعو إلى الإخلال بالنظام العام، أو التأثير على المصلحة الوطنية، أو بث روح الشقاق، إلى جانب استغلال القضايا العامة عبر خطاب يقوم على التجييش والتأليب والتضليل.وتضمّنت القرارات تغريم المخالفين، وإلزامهم بحذف الحسابات التي صدرت منها تلك التجاوزات، مع تأكيد الجهة المختصة عدم التهاون في التعامل مع أي محتوى إعلامي يخالف الأنظمة المعتمدة.هذه القرارات لا يمكن قراءتها بوصفها إجراءً عقابياً معزولاً، بل باعتبارها ممارسة تنظيمية تستهدف ضبط السلوك الإعلامي في الفضاء الرقمي، وحماية المجال العام من التحول إلى ساحة للتأثير الجماعي غير المنضبط، أو منصة لتأليب الرأي العام خارج الإطار النظامي.ومن الزاوية القانونية، يبرز هنا فارق جوهري كثيراً ما يُغفل في النقاش العام:النظام لا يُقيم الرأي بذاته، بل يُقيّم أثره.فحرية التعبير بوصفها مبدأً مكفولاً، لا تعني إطلاق المحتوى دون قيد، ولا تُحصّن صاحبه متى ما تجاوز من التعبير إلى التحريض، أو من النقد إلى التجييش، أو من الرأي إلى إحداث أثر عام يمس النظام العام أو المصلحة الوطنية. وهنا تحديداً تتدخل الجهة التنظيمية، لا لتصادر الفكر، بل لتنظم الفعل الإعلامي وآثاره.المسألة إذن ليست في «ماذا قيل»، بل في كيف قيل، وبأي أسلوب، ولأي غاية، وما الأثر المترتب عليه. فحين يُستخدم الخطاب الإعلامي لإثارة الجمهور، أو لبناء حالة استقطاب حاد، أو لبث الشقاق والتشكيك، فإننا نكون أمام سلوك إعلامي له تبعات نظامية، لا مجرد رأي شخصي معزول.ومن المهم هنا التوقف عند نقطة قانونية دقيقة:الأنظمة الإعلامية لا تتدخل في الآراء الفردية بذاتها، لكنها تتحرك عندما يتحوّل الخطاب إلى ممارسة مؤثرة تمس الاستقرار العام، أو تُخل بالتوازن المجتمعي، أو تُستغل القضايا العامة لتحقيق حضور أو تأثير غير مشروع. في هذه اللحظة، ينتقل الفعل من نطاق الحرية إلى نطاق المسؤولية.وهذا ما يُحسب للقرارات الأخيرة؛ إذ عكست فهماً متقدّماً لطبيعة المنصات الرقمية بوصفها أدوات تأثير واسعة، لا يقل أثرها عن وسائل الإعلام التقليدية، بل قد يتجاوزها سرعة وانتشاراً. ومن ثم، فإن إخضاع هذا التأثير لمعايير السلوك الإعلامي المنضبط ليس تقييداً، بل تطبيق لمبدأ التنظيم العادل للمجال العام.الأخطر في خطاب التجييش أنه غالباً يُبنى على تبسيط مخلّ للقضايا، وإثارة انفعالات سريعة، وصناعة اصطفافات حادة، تُقصي أي نقاش عقلاني أو قراءة قانونية متزنة. وفي هذه الحالة، لا يصبح الخطر في الرأي ذاته، بل في الأثر التراكمي الذي يُحدثه هذا الخطاب على وعي المجتمع وتماسكه.وعلى هذا الأساس، يتضح أن تنظيم الخطاب في الفضاء الرقمي لم يعد خياراً إدارياً، بل ضرورة نظامية تفرضها طبيعة التأثير واتساع دائرته. وفي ظل التوسع المتسارع لمنصات النشر الرقمية، تبرز أهمية وجود جهة تنظيمية لا تكتفي بالمراقبة، بل تمارس دورها في حماية المجال العام من الانزلاق، وضمان بقاء الخطاب ضمن حدوده النظامية، بما يحفظ التوازن بين حرية التعبير وسلامة الأثر. فالفارق بين الرأي والتأثير غير المنضبط ليس فارقاً لغوياً، بل معيار نظامي تُبنى عليه المسؤولية، وتُقاس به مشروعية السلوك الإعلامي، وتُدار على أساسه مساحة التعبير في دولة تُدار بالقانون، لا بردود الفعل ولا بضجيج المنصات.