د. أحمد موفق زيدان - الجزيرة نت في الذكرى الأولى للتحرير تزاحمت الاحتفالات والمناسبات على الشعب السوري، في ظاهرة ربما غير مسبوقة في تاريخه، وهو الذي عاش في جمهورية المآسي والسجون والاضطهاد والقهر، بحقبة سوداء من تاريخ حكم البعث السوري منذ عام 1963 حتى الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 يوم سقط نظام بشار الأسد. ولعل أجمل ما في احتفالات الذكرى السنوية الأولى للنصر، هي المظاهرات العفوية التي شهدتها كل المناطق والبلدات السورية، حتى مناطق الشتات السوري، مما عكس حالة استفتاء شعبي، وتصويت بالأرجل لصالح العهد الجديد، مما عزز حالة الانتماء الوطني للجمهورية الثانية، وعزز معه الوحدة الوطنية التي التقت على شعار كبير هو تحرير سوريا، وبناء مستقبلها. صاحب هذه المناسبة، فيلم (ردع العدوان) الذي سعى إلى توثيق ما جرى من عدة واستعداد استغرقت سنوات، فالتقت الفرصة مع الاستعداد، للحظة استغلها الثوار يوم انطلقت جحافلهم من الشمال السوري، من أجل تطهير سوريا كلها من نظام كبلها لعقود. ولعل من أهم الرسائل التي تمكن فيلم ردع العدوان الذي قاربت مشاهداته على منصة يوتيوب وحدها حتى كتابة هذا المقال 2.5 مليون مشاهد تقريبا، رسالة أن المعركة لم تكن ردة فعل آنية، وهي التي ولدت من رحم الاجتياح الكبير الذي استهدف بعض مناطق الشمال السوري عام 2019، وكنت شاهدا عليه، حيث خسر فيه الثوار كثيرا من ريف حماة وحلب وإدلب، مع تهجير أكثر من مليون شخص. ولكن بالعزيمة والإرادة اللتين تحلى بهما الثوار وعلى رأسهم هيئة تحرير الشمال، كانت أقوى من ذلك الانكسار، إذ تمكنت من خلال برامج عسكرية وأمنية وخدمية وبغضون خمس سنوات فقط، من العودة أقوى مما كانت عليه، كعادة الأسود التي تتراجع مترا أو نحوه، لتثب وثبتها الكبرى، وقد تحققت تلك الوثبة يوم السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2024، يوم انطلقت معركة ردع العدوان مستهدفة قبتان الجبل وريف حلب الغربي، لتمتد محاور القتال لاحقا إلى محاور إدلب، وتتقدم الجيوش لتكنس النظام المجرم من المدن الرئيسة حتى الوصول إلى درة التاج السوري دمشق، وذلك في غضون 11 يوما. عمد الثوار في إدلب طوال تلك السنوات إلى تحرير القرار العسكري والسياسي والخدمي للمنطقة، فوحدوا الجماعات كلها ضمن بوتقة عسكرية وسياسية وخدمية واحدة، ممثلة بحكومة الإنقاذ، التي نجحت في تقديم أنموذج خدمي مميز مقارنة بالإمكانيات المتوافرة لديها، فكانت نموذجا متقدما بشكل كبير على النماذج المطروحة في الساحة السورية، سواء أنموذج النظام السوري البائد، أو أنموذج قسد، الأمر الذي شد الشعب السوري في المناطق المحررة أو في المناطق الخاضعة للنظام السوري، وهو ما دفع المقيمين في مناطق الأخير إلى الهجرة إلى مناطق الشمال السوري المحررة، نتيجة وجود الخدمات الجيدة فيها، فضلا عن الحالة الأمنية والمعيشية الجيدة. الاختراق الأمني الذي أحدثته المنظومة الأمنية في إدلب، حين تم اختراق الأجهزة الأمنية الداخلية للنظام السوري، وعلى رأس هذا الاختراق البطل خالد الذي سبق أن انشق عن الهيئة وانضم إلى الأمن العسكري في حلب، ووصل إلى أماكن مهمة وحساسة، بحيث تمكن لاحقا قبل العمليات من تهريب مجموعة الانغماسيين الخمسة، الذين كانوا مفاتيح النصر يوم اقتحموا غرفة العمليات في حي الفرقان بحلب، كل هذا عكس مدى الاحترافية والمهنية والعمل الأمني النوعي الذي سبق أن صاحب عمليات ردع العدوان، وهو الأمر الذي أثبت بشكل واضح استقلالية قرار المعركة، الذي كان قرارا سوريا بامتياز بطعم نبع الفيجة وبردى والفرات والعاصي. لقد عكست هذه المعركة حقيقة ملموسة للجميع: أنها كانت من أكثر المعارك رحمة في التاريخ الحديث، حيث شاهد الجميع جموع المنهزمين وبالآلاف مطأطئي الرؤوس، خارجين من دمشق، وعائدين إلى مناطقهم، بينما الجيش المنتصر داخل إلى دمشق، لكنه جيش لم يكن توجهه إلى القصور والفلل والفنادق، وإنما كان إلى سجن صيدنايا وغيره من السجون، إيفاء بالقسم الذي أقسمه الثوار منذ انطلاقة الثورة لتحرير السجناء والمعتقلين، أملا في تحريرهم والعثور على مئات الآلاف، ولكن لم يتم العثور سوى على بضعة آلاف فقط. لم تكن معركة ردع العدوان التي قادها الرئيس أحمد الشرع مجرد معركة عسكرية، فقد بدا من خلال اللوح الذي كتب عنه إستراتيجيته للمعركة أنها معركة متعددة الأبعاد، فظهرت ملامح الذكاء العسكري والسياسي، وتجلى ذلك من خلال رسائله للدول، بحيث بدد مخاوفها وانشغالاتها، كل ذلك بما يخدم مصالح الدولة الجديدة. الأهم من ذلك كله قدرة الرئيس والقادة الجدد على ضبط الشارع السوري، إذ لم تحصل أي عمليات تهور وتسرع وتجاوزات بعد أن أعلن الرئيس: (نصر بلا ثأر)، وهو ما أكد قدرة القادة الجدد وعلى رأسهم الرئيس الشرع على ضبط الشارع، واستعداد الأخير للتجاوب معه والإنصات لتوجيهاته وسياساته. وجاء اليوم التالي للفتح ليفاجأ الجميع، ممن راهنوا على حالات الفوضى والنهب والسلب والقتل التي ميزت دخول بعض الجيوش في السنوات الماضية، فكان الفتح الحضاري لحلب وحماة وحمص، مفاجأة حتى لمن راهن على الثورة والثوار، وقد لعبت حكومة الإنقاذ في إدلب من خلال رئيس وزرائها يومها الأخ محمد البشير دورا محوريا وفعالا في إدارة المعركة الخدمية، حيث قامت بنقل كوادرها إلى المدن المفتوحة، لتحمي المؤسسات، وتوفر الخدمات للمدنيين والأهالي، مما شكل سابقة واعدة ومشجعة للمدن الأخرى فتجاوبت سريعا مع الفاتحين الجدد. رسخ الفيلم الحالة التصالحية بين كافة مكونات الشعب السوري، وهي التي شاهدها العالم كله خلال العام الماضي، وعلى الرغم من الجهود العبثية التي حاولت التأثير على هذه الأجواء التصالحية والسلمية والوطنية، إن كان من خلال عبث بعض الفلول في الساحل، أو من بعض الجماعات الخارجة عن القانون، لكن ظلت الدولة السورية على عهدها ونهجها، وانعكس بالسماح لمنظمات دولية من أجل أن تجري تحقيقاتها بنفسها بكل شفافية، فخرجت بخلاصات ونتائج شبيهة بما خلصت إليه اللجان التي شكلتها الدولة السورية، مما أكد على الشفافية التي تسير عليه الدولة الجديدة. اللافت أن محدودية الإمكانيات والقدرات التي كانت تتمتع بها حكومة الإنقاذ في إدلب، لم تمنعها من قيادة المعركة في مواجهة نظام مدعوم من قوى إقليمية ودولية ومليشيات طائفية، علما أن هذا النظام جير ووظف كل إمكانيات الدولة السورية ومواردها للمعركة التي شنها على الشعب السوري، بالإضافة إلى جيوب زبانيته وهو ما تجلى بحالات النهب والسلب التي قاموا بها، مقابل حالة البؤس والتخلف والإهمال التي ترك عليها حواضر سوريا كلها. وعلى الرغم من الجهد الفني المميز الذي بذله صانعو الفيلم، لكن يبقى من قد يعترض على جزئيات فيه، وهو أمر عادي، ولا تسلم من هذه الاعتراضات كبرى الأفلام العالمية، ولكن هذا لا يقلل أبدا من الجهد والإبداع الذي قدمه الفيلم كرواية رسمية لما حصل بتحرير دمشق، بعد أن بلغ اليأس مبلغه داخليا وخارجيا، وصل إلى اندفاع الجميع تقريبا للتطبيع مع النظام السوري المجرم. الفيلم الذي قدم سردية مختصرة في ساعتين ونصف الساعة تقريبا، ليس كافيا بكل المقاييس أن يسرد حكاية صمود الشعب السوري، فثمة جهد طويل وكبير أمام أصحاب الأفلام لتوثيق سنوات الجمر السورية، سنوات لم يستسلم فيها هذا الشعب أمام استخدام أسلحة الدمار الشامل، والتي استخدمت لـ 217 مرة، بالإضافة إلى براميل متفجرة، لكنه ظل وفيا لقسم الثورة بإسقاط النظام السوري، وقد فعل.