المثقف بين المعرفة والسلطة: حين تتحوّل الفكرة إلى أداة استبداد #عاجل

كتب د. معن علي المقابلة - لا يقوم الاستبداد في العالم العربي على القمع الأمني وحده، بل يستند، في أحد أركانه الأساسية، إلى خطاب فكري يُنتَج ويُعاد إنتاجه على أيدي مثقفين قبلوا أن يتحوّلوا من فاعلين نقديين إلى أدوات وظيفية في خدمة السلطة. فالقوة تحتاج دائمًا إلى من يبرّرها، والاستبداد لا يكتمل إلا حين يكتسب شرعية معرفية تُقنع المجتمع بأن القيد ضرورة، وأن الطاعة حكمة، وأن الحرية خطر مؤجَّل. يقدّم عبد الوهاب المسيري مفهوم «المثقف الوظيفي» بوصفه المثقف الذي تُفرَّغ معرفته من بعدها النقدي، وتُعاد هندستها لتخدم مشروع السلطة السياسية أو الأيديولوجية. هذا المثقف لا يُقمع بالضرورة، بل يُستوعب داخل منظومة الامتيازات: منابر إعلامية، مناصب رسمية، حضور عام، أو حماية رمزية. وفي المقابل، يؤدّي وظيفة محدّدة: تبرير الاستبداد بلغة وطنية ناعمة. في السياق العربي، تتكرّس هذه الوظيفية عبر مفردات تبدو في ظاهرها عقلانية وواقعية، مثل «الأمن القومي»، و«الاستقرار»، و«المصلحة العليا»، و«الخصوصية الثقافية». غير أن هذه المفاهيم، حين تُنزَع من سياقها النقدي، تتحوّل إلى أدوات أيديولوجية تُستخدم لتطبيع القمع وتجريده من طابعه الاستثنائي، بحيث يغدو الاستبداد هو القاعدة، والحرية هي الشذوذ. في هذا التبادل غير المتكافئ بين السلطة والمثقف، يحصل المستبد على ما لا تستطيع أدوات القمع توفيره: الشرعية. ويحصل المثقف، في المقابل، على منافع مادية ورمزية تضمن له موقعًا داخل النظام القائم. غير أن ثمن هذا الترتيب لا يُدفع سياسيًا فقط، بل معرفيًا وأخلاقيًا؛ إذ تتحوّل المعرفة من أداة مساءلة إلى أداة تمويه، ومن فعل تحرّر إلى تقنية ضبط اجتماعي. وهنا لا تعود خيانة المثقف خيانة للمجتمع وحده، بل خيانة للمعرفة ذاتها. على النقيض من هذا النموذج، يطرح أنطونيو غرامشي مفهوم «المثقف العضوي» الذي يرتبط بقضايا مجتمعه لا بمصالح السلطة، ويمارس دورًا نقديًا في تفكيك خطاب الهيمنة بدل إعادة إنتاجه. فالمثقف العضوي لا يدّعي الحياد في لحظة الظلم، لأن الحياد في سياق الاستبداد ليس موقفًا أخلاقيًا، بل انحياز صامت للأقوى. تكمن خطورة المثقف الوظيفي في كونه جزءًا بنيويًا من منظومة الاستبداد، لا مجرّد ملحق بها. فهو لا يبرّر القمع فحسب، بل يمنحه طابعًا عقلانيًا وتاريخيًا، ويقدّمه بوصفه الخيار الواقعي الوحيد، في مقابل تصوير الحرية والديمقراطية كترف أو تهديد. وبهذا المعنى، يمارس المثقف الوظيفي قمعًا من نوع آخر: قمع الوعي. إن الأزمة في العالم العربي ليست في غياب المثقفين، بل في تآكل دورهم النقدي وتحويلهم إلى وسطاء خطابيين بين السلطة والمجتمع. والسؤال الجوهري الذي يواجه المثقف اليوم ليس مهنيًا أو تقنيًا، بل أخلاقي وسياسي في آن: هل تكون المعرفة في خدمة الحقيقة أم في خدمة القوة؟ هل يكون المثقف شاهدًا على مجتمعه أم موظفًا في بلاط السلطة؟ في لحظات التحوّل التاريخي، لا تُقاس قيمة المثقف بما يمتلكه من معرفة، بل بالموقع الذي يختاره لهذه المعرفة. فإما أن تكون أداة لتحرير الوعي، أو أن تتحوّل إلى أحد أكثر أدوات الاستبداد فاعلية وخطورة. .