لسنا اليوم أمام تراجع في تعليم اللغة العربية، بل أمام قطيعة صامتة مع الوعي! ما يحدث في مدارسنا وبيوتنا ليس ضعفاً لغوياً عابراً، بل تفكيك بطيء لأداة التفكير الأولى، فالطفل العربي يدخل المدرسة بلا لغة واضحة، ويخرج منها بلا قدرة حقيقية على القراءة أو التعبير، وبين الدخول والخروج تُهدر سنوات عمره في مناهج لا تصنع لساناً ولا تبني عقلاً.. هذه ليست مصادفة تربوية، بل نتيجة مسار طويل من الاستخفاف باللغة بوصفها جوهر التعليم لا مادته.. فقد أُلغي امتحان اللغة العربية النهائي في الصف الثالث الثانوي لابنتي منذ شهر! فأحسست أنا الكاتبة بالفشل كأم..الأرقام تكشف حجم المأزق! تفضلوا؛ تقرير البنك الدولي لعام 2022 عن التعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أشار إلى أن نحو 59٪ من الأطفال في سن العاشرة يعانون مما يُسمّى «فقر التعلّم»؛ أي عدم القدرة على قراءة نص بسيط وفهمه بلغتهم الأم. هذا المؤشر لا يعني ضعف مهارة مدرسية، بل عجزاً في امتلاك الحد الأدنى من أدوات التفكير. وفي تقارير تربوية منشورة في المغرب وعدة دول عربية تبيّن أن أكثر من 70٪ من تلاميذ المرحلة الابتدائية لا يتقنون القراءة السليمة بالعربية، رغم سنوات الدراسة النظامية!الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين قال: «حدود لغتي هي حدود عالمي». علم النفس اللغوي يذهب أبعد من ذلك، إذ يربط بين ضعف اللغة الأم واضطراب التفكير المجرد، وصعوبة تنظيم المشاعر، وهشاشة الهوية.الطفل الذي لا يملك لغة لا يملك فكرة، ولا يملك موقفاً، بل يكتفي بردود سريعة ومفردات مستعارة. لهذا نرى جيلاً يتحدث كثيراً ويفكّر قليلاً، يستهلك المعنى ولا ينتجه.المدرسة أخطأت حين حوّلت العربية إلى مادة حفظ جامدة، والبيت أخطأ حين سلّم التربية اللغوية للشاشات والمربيات، والإعلام أخطأ حين قدّم الفصحى كلغة خشب لا لغة حياة.ابن خلدون حسم المسألة مبكراً حين قال: «غلبة اللغة بغلبة أهلها»، ونحن تخلّينا عن الغلبة قبل أن نخسر اللغة.ما نفقده اليوم ليس قواعد لغة ولا مهارات مدرسية، بل نفقد الإنسان القادر على الفهم والمساءلة والاختيار. اللغة ليست ترفاً ثقافياً ولا مادة امتحان، بل هي العمود الفقري للعقل. حين تُهمَّش العربية، يُنتَج جيلٌ بلا أدوات تفكير، بلا قدرة على الاحتجاج، بلا لغة يدافع بها عن نفسه أو وطنه أو مستقبله.وهذه أخطر خسارة يمكن أن تتعرّض لها أمة؛ لأن من يُربّى بلا لغة، يُقاد بلا مقاومة.