الرنتاوي يكتب عن سعي إسرائيل لتطويق مراكز القوة العربية - الإقليمية الأربعة #عاجل

كتب: عريب الرنتاوي * من يتتبع خريطة الأزمات المندلعة في الإقليم، قديمها وجديدها، لن يجد صعوبة في العثور على "إصبع إسرائيلي"، فاعل ومؤثر، في كل واحدة منها...ما كان يقال بالأمس، بأن العرب والمسلمين، يعلقون أوزار فشلهم وأزماتهم المتراكمة، على المشجب الإسرائيلي، بتنا نراه اليوم، رأي العين، من دون أن نعفي أحداً، حكاماً ومحكومين، من المسؤولية عن المآلات الكارثية التي وصلت إليها الأمة، وأمنها القومي. من ضفاف المتوسط حتى قزوين، ومن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، حتى ضفاف الخليج، لا تكف إسرائيل في عصر "الفاشية الجديدة"، عن إعادة تعريف "أمنها القومي"، والتوسع في رسم حدود "مجالاتها الحيوية"، واضعة في صدارة أولوياتها، استهداف أربعة قوى إقليمية، هي الأكبر والأوزن، من مصر على حدودها الجنوبية، مروراً بالسعودية على الشرق من حدودها، وليس انتهاء بتركيا في الشمال، ودائماً إيران في قلب المهداف، ومن جهاتها الأربع. أحلاف ناشئة حلفان جرى العمل على تظهيرهما، خلال عامي "التطهير والإبادة" على غزة: أولهما؛ "حلف الأقليات" في سوريا، والذي بدأ "التبشير" بولادته، صبيحة اليوم التالي لسقوط نظام الأسد، والهدف منه، تمزيق سوريا، وإعادة انتاج إمارات المدن والطوائف والأقوام، وتهديد الأمن القومي العربي، والمس من "المسافة صفر"، بوحدة تركيا أرضاً وشعباً، وتهديد أمنها وسيادتها...لم يكن شيوخ السويداء يتجرّؤون على توجيه آيات الشكر لليد الإسرائيلية "الممدودة" لهم، لولا الوقاحة والاستباحة اللتان تطبعا المواقف الإسرائيلية، ولما كانت "قسد" تذهب بعيداً في المماطلة والتسويف والاشتراطات التعجيزية، ولما أطل علينا "غزال الساحل"، بشرط "فدرلة" سوريا على أساس الطوائف والأقوام. ثانيهما: "التحالف الثلاثي"، الذ ي تظهّر مؤخراً، ويضم في صفوفه، إلى جانبها، كلٍ من اليونان وقبرص، أما أهداف هذا الحلف، فلم تعد خافية على أحد: (1) بسط الهيمنة على نفط وغاز شرق المتوسط، وسرقة ما يمكن سرقته من موارد دول المنطقة وشعوبها... (2) تعبيد الممر الهندي وتأمينه، بوصفه أحد أدوات التصدي لنفوذ الصين ومشروعها العملاق: الحزام والطريق، والإسهام في تعميق اندماجها "استراتيجياً" بعلاقات تطبيعية مع دول عربية وازنة، تقع على خريطة هذا الممر... (3) محاصرة تركيا من الغرب والجنوب والسعي لاحتواء نفوذها المتزايد في المنطقة، سيما بعد الثامن من ديسمبر في سوريا... (4) بناء شراكة عسكرية-أمنية بين أطراف هذا المثلث، لا تقتصر على "التدريبات والمناورات المشتركة"، بل تتخطاها لنشر منظومات إسرائيلية للرصد والتجسس وقواعد إسناد خلفية للجيش الإسرائيلي في حروبه الحالية والقادمة. والمؤسف حقاً، أن هذا الحلف، يجد دعماً قوياً من عاصمة عربية واحدة على الأقل، وتصمت حيال أهدافه ومراميه، عواصم أخرى، ويقف فريق ثالث منها، موقفاً عاجزاً حيال ما سيأتي به من أخطار .وتهديدات... صحيح أن شارة البدء في تشكيل هذا الحلف، قد انطلقت من القاهرة، زمن مشروع "غاز شرق المتوسط" الذي أدمج إسرائيل واستثنى تركيا، بل واستهدفها بالأساس، لكن الصحيح كذلك، أن التطورات "النوعية" في علاقات مصر بتركيا، وتطورات ما بعد الطوفان، تُخرج مصر، من آخر طبعات هذا الحلف غير المقدس، والأمر في مطلق الأحوال، يستدعي ابتعاد دول مثل الأردن ومصر ولبنان وسوريا، وهي الأطراف التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع قبرص، ومن ورائها اليونان، عن كل ما من شأنه إثارة الانطباع بأنها لا تستشعر خطراً من التطورات الأخيرة، أو أنها ستواصل عملها مع الطرفين الأوروبيين فيه، كما لو أن شيئاً لا يحدث. كيانات انفصالية على نحو متزامن، ومتوازٍ، وقعت تطورات إقليمية ثلاثة، تستكمل أهداف الحلفين المذكورين، في استهداف الأمن القومي والإقليمي، وتحديداً اللاعبين العرب والمسلمين الأربعة الأكبر: - أولها؛ التقدم السريع، الذي أحرزته قوات التدخل السريع، الجنجويد سابقاً، في إقليمي دارفور وكردفان في السودان، بما يشي باحتمال قيام كيان انفصالي، أطل برأسه من اجتماعات نيروبي و"الحكومة الموازية"، ودائماً بدعم كثيف من الأطراف ذاتها...تفكيك السودان وتدمير مقدراته، مصلحة إسرائيلية عليا، قديماً وحديثاً، وقد دخلت الإمارات العربية على خط الدعم الكثيف لهذه العصابات الإجرامية، حتى أن نشرات الأخبار في مختلف محطات الإعلام الكبرى، لا تأتي على ذكر "الدعم السريع" من دون أن استطراد بعبارة "المدعوم من الإمارات". وسيتضح لاحقاً، أن حسم معركة دارفور، ما كان ممكناً لولا التسهيلات الكبرى التي حظي بها "حميدتي" من نظيره في شرق ليبيا، الجنرال حفتر، المدعوم من الإمارات (وكان مدعوماً من مصر وروسيا كذلك)، ودائماً بوعد الانضمام إلى "الإبراهيميات"، هنا أيضاً تكتمل ملامح وعناصر، حلف إسرائيلي، مغطى أمريكياً بدرجة ما، وتنخرط فيه، عواصم عربية، مباشرة أو بالصمت والتردد والعجز. هذه التطورات، تتهدد الأمن القومي المصري في حديقته الخلفية، وتتحول إلى خنجر مغروز في الخاصرة السعودية، وتمس أمن البحر الأحمر وشرق أفريقيا برمته، وتسهم في احتواء الدور التركي في المنطقة، وتمنع على إيران، أي محاولة لتطوير علاقاتٍ ثنائية، كانت لاحت في الأفق...بالطبع، أثيوبيا ذات الإرث الإمبراطوري، التي تصطدم مع مصر بمصالح متناقضة، من مياه النيل وسد النهضة، وحتى البحر الأحمر وأمن الملاحة، ليست بعيدة عمّا يجري، طالما أنه يصبُّ القمح صافياً في طاحونتها. - ثانيها؛ الهجوم المفاجئ الذي شنّه المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظتي حضرموت والمهرة، الحدوديتين مع كل من السعودية وعُمان، بعد أن بعث الانفصاليون ما يكفي من "كتب النوايا" للتطبيع مع تل أبيب، والالتحاق بالقاطرة الإبراهيمية .... ما يجري على الضفة العربية للقرن الأفريقي، يسهم في تطويق السعودية وإضعاف سلطنة عمان، واستهداف إيران، وضرب مداخل ومفاتيح الدور التركي في هذه البقعة الاستراتيجية من العالم، ويضع تل أبيب وحلفائها من عرب الإبراهيميات، في مكانة متحكمة بأحد أبرز شرايين الملاحقة البحرية، وأهم المضائق، والجزر والموانئ في العالم. السعودية أدركت ذلك، وإن بشكل متأخر، وهي وإن كانت ما زالت في مرحلة المعالجة السياسية والدبلوماسية للأزمة المفتوحة، إلا أنها لم تخف نيتها استخدام القوة إن لزم الأمر، وهو أمرٌ محمود، وإن كان يتعين أن يأتي في سياق إقليمي أوسع نطاقاً، لأن التهديد لا يأتي من جبهة واحدة فحسب، فالأطراف التي تعبث في السودان، هي ذاتها الأطراف التي تعبث في اليمن، وسنرى لاحقاً أنها ذات الأطراف التي تعبث بالصومال وأرضه ... التهديد متعدد الجبهات والأطراف، يملي على الرياض والقاهرة وأنقرة، وربما طهران في مرحلة لاحقة، استراتيجية مواجهة، متعددة الجبهات والأطراف كذلك...تختلف الملاعب، بيد أن اللعبة هي ذاتها، والأطراف هم أنفسهم هنا وهناك. - ثالثها؛ وليس آخرها، اعتراف حكومة نتنياهو بأرض الصومال، دولة مستقلة ذات سيادة، لتكون بذلك أول دولة تعترف بهذا الكيان الانفصالي، وبهدف ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: (1) توفير ملاذ لاستيعاب الفلسطينيين المهجرين قسراً عن ديارهم، بعد أن استنكفت غالبية دول العالم عن القبول بهذه المهمة القذرة ... (2) تمكين أثيوبيا، خصم مصر وحليف إسرائيل، من ميناء بربرة على بحر العرب/خليج عدن، وسط أنباء عن نية "آبي أحمد" بناء أسطول أثيوبي، برغم أن بلاده "دولة داخلية"، لا شواطئ لها على بحار العالم، وهو الأمر الذي تعده مصر تهديداً إضافياً لأمنها القومي، ولا تنظر دول الخليج له، ومنها السعودية، بالعين ذاتها ... (3) بناء قواعد إسرائيلية للتجسس والسيطرة والتحكم بالخليج والمضيق والبحر، وبما يهدد أمن مصر ودول الخليج، ويثأر من "إغلاق ميناء إيلات" على أيدي أنصار الله، ويتهدد وجود إيران وحلفائها في المنطقة، بالذات في شمال اليمن، كما أنها يشكل طعنة للدورين التركي والقطري في الصومال. ما العمل؟ هي معركة واحدة، أطرافها ذاتها، ساحاتها متعددة، من غزة والضفة، مروراً بالقرن الأفريقي، وليس انتهاء بالأحلاف المشبوهة... يديرها "المعسكر الآخر"، بأعلى درجات التنسيق والتعاون، وتديرها الأطراف المُستهدفة الأربعة الكبرى، متفرقة، وبـ "القطعة"، في حين تشتد الحاجة لمنظومة إقليمية للأمن والتعاون، متعددة المجالات والطبقات، ومفتوحة لمشاركات من لدن دول عربية وإسلامية أخرى، تجد نفسها في خانة القلق من التوحش الإسرائيلي ومحاولات بسط الهيمنة بالقوة الغاشمة. هي معركة، لا تقبل الحياد، فما بالكم حين تصطف أطراف عربية وإسلامية في الخندق الآخر، ما يملي تجنب سياسة "المجاملات" ودفن الرؤوس في الرمال، والتخلي عن لغة والبيانات الفارغة من كل مضمون، والانتقال إلى دائرة الفعل والتأثير، حتى لا تبقى الأمة بأسرها في موقع المفعول به. وهي معركة، لا يمكن كسبها من خلال استرضاء واشنطن، ومحاولة تحييدها، وتقديم أثمان باهظة لها لتفادي "شرّها"... أغلب الدول المهددة بالاستباحة والهيمنة الإسرائيليتين، تلجأ إلى واشنطن، وتراهن على توسيع هوامش الخلاف بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، وهو "تكتيك" يمكن اللجوء إليه، بيد أنه لا يشكل استراتيجية للمواجهة، بل في أحسن الأحوال، هو تفصيل وجزئية من تفاصيلها العديدة، وجزئياتها الكثيرة ... واشنطن، لم تصل بعد إلى النتيجة التي يحلم بها بعض العرب والمسلمين: تحول إسرائيل من ذخر إلى عبء، وطالما أن الأخيرة، لا تدفع الأثمان، ولا أحد يلمح إليها بذلك، مجرد تلميح، فإن الهروب من واشنطن إليها، هو كما الاستجارة من الرمضاء بالنار، ستحرق من يقدم عليها، وإن بعد حين. آن أوان الإقرار بأن إسرائيل، وإسرائيل وحدها، هي المهدد الأكبر لكل هذه الأطراف، وأنها هي القوة المزعزعة لاستقرار مصر وتركيا وإيران والخليج (تذكّروا مغزى ودلالة استهداف قادة حماس في قلب الدوحة)... آن الأوان لكي يُبنى على الشيء مقتضاه، ومقتضى التصدي للعبث الإسرائيلي الأخطر، هو الشروع دون إبطاء، في تحييد الخلافات وتجميدها، أو إعطائها حجمها الطبيعي، من دون مبالغة ولا تطيّر، وأن تذهب الدول الإقليمية في مجموعة (2 + 2)، كما يمكننا أن نطلق عليها، دولتان عربيتان (السعودية ومصر) واثنتان إسلاميتان (تركيا وإيران) لتشكيل "نواة" منظومة إقليمية للأمن والتعاون، على أن يظل الباب مفتوحاً لمن يرغب بالانضمام، إلى هذه القاطرة الرباعية، حتى لا تستفرد إسرائيل وحلفاؤها، بكل دولة على حدة، مستفيدين من دروس تجربة "وحدة الساحات وانفصالها"، ولنا أن نتخيل التداعيات التي قد تترتب على انعقاد قمة للمجموعة الرباعية ، إذ بمجرد انعقاد قمة من هذا النوع، وعلى جدول أعمالها مناقشة التهديدات المشتركة، حتى تنطلق مفاعيل وديناميات، تعيد الجميع إلى حجومهم الطبيعية، وفي مقدم هؤلاء، إسرائيل، التي أظهر الطوفان، أنها دولة قابلة للهزيمة والانكسار، لا "جيشاً لا يقهر". .