كتب اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني - لقد كان إعلان متقاعد أردني عن استعداده لبيع كليته عبر وسائل التواصل تعبيرًا فاضحًا عن لحظة يأس قصوى أنتجتها بيئة اقتصادية ومعيشية واجتماعية ضاغطة. إن تحويل هذه اللحظة إلى ملف جزائي انتهى بحكم حبس، دون تفكيك الظروف التي قادت إليها، يُمثّل مقاربة ناقصة للعدالة، تكتفي بإنفاذ القانون وتغفل الأسئلة الأشد إلحاحًا. قانونيًا، لا خلاف على أن الاتجار بأعضاء جسم الإنسان جريمة واضحة ومجرّمة بنصوص صريحة، وأن حماية الجسد الإنساني من التحول إلى سلعة تُعدّ خطًا أحمر أخلاقيًا وقانونيًا لا يجوز تجاوزه. كما أن تدخل الجهات المختصة وملاحقة المخالفة واجب مؤسسي لا نقاش فيه. غير أن تحويل النص القانوني إلى نهاية النقاش، بدل أن يكون بدايته، يُفرغ العدالة من بعدها الاجتماعي، ويختزلها في إجراء عقابي لا يعالج سوى السطح. المفارقة الصادمة في هذه القضية أن الفعل المُجرَّم لم يكن نتاج طمع أو شبكة اتجار أو استغلال منظّم، بل نتيجة شعور بالعجز الكامل أمام دين متراكم وانسداد في الخيارات. وهنا ينبغي إعادة توجيه البوصلة التحليلية: ما الذي يدفع مواطنًا متقاعدًا، يفترض أن يكون في مرحلة استقرار نسبي، إلى اعتبار جسده آخر أصل قابل للتسييل؟ هذا السؤال لا يطال الفرد بقدر ما يطال السياسات العامة التي تركت فئات واسعة تواجه مصيرها المالي وحيدة. تكشف هذه الواقعة عن خلل بنيوي في منظومة الحماية الاجتماعية، حيث يتحول التقاعد لدى كثيرين من مظلة أمان إلى بوابة هشاشة. دخل محدود، تضخم مستمر، التزامات مالية متراكمة، وغياب آليات فعّالة لإعادة جدولة الديون أو احتواء التعثر، كلها عوامل تصنع بيئة مثالية لليأس. وعندما تفشل هذه المنظومة، يصبح القانون هو الأداة الوحيدة الحاضرة، لا كوسيلة إنقاذ، بل كجدار أخير يُصطدم به المنهك اقتصاديًا. من هنا تبرز إشكالية جوهرية: ما جدوى الحكم بالسجن في حالة كهذه؟ هل يحقق الردع العام؟ أم أنه يضيف عبئًا اقتصاديًا واجتماعيًا جديدًا على أسرة المتهم، ويحوّل أزمة مالية إلى سلسلة أزمات متراكبة؟ إن العقوبة، حين تنفصل عن تحليل أسباب الجريمة، تخاطر بأن تعاقب النتيجة وتترك الجذور بلا مساءلة. إنفاذ القانون في هذه القضايا ضروري لحماية المجتمع ومنع الانزلاق إلى تسليع الجسد الإنساني، لكنه ليس كافيًا (It is necessary but not sufficient). فالقانون، مهما كان صارمًا، لا يمكنه وحده معالجة الفقر، ولا كبح اليأس، ولا ترميم الفجوات الاجتماعية. العدالة الحقيقية تتطلب أن يُسند الردع القانوني بسياسات اقتصادية عادلة، وشبكات أمان اجتماعي فاعلة، وتدخلات مبكرة تمنع وصول المواطن إلى لحظة الانكسار القصوى. ولا يمكن في هذا السياق إعفاء المجتمع المدني ومؤسساته من المسؤولية. فغياب دور منظم لصناديق التكافل، والمؤسسات الخيرية، ومبادرات المسؤولية المجتمعية، يعكس خللًا في مفهوم التضامن الاجتماعي، ويترك الأفراد وحدهم في مواجهة أزماتهم، إلى أن تنفجر في صورة قضايا جنائية أو مآسٍ إنسانية. الأخطر في هذه القصة ليس المخالفة بحد ذاتها، بل الدلالة التي تحملها: أن بعض المواطنين باتوا يشعرون بأن أجسادهم هي آخر ما تبقى لديهم للتفاوض مع الدين والفقر. وهذه دلالة تستوجب مراجعة جذرية للعلاقة بين القانون والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، بحيث لا يتحول إنفاذ القانون إلى أداة لمعاقبة اليأس، بل جزءًا من منظومة أوسع تحمي الإنسان قبل أن يصل إلى تلك اللحظة. في المحصلة، الدولة القوية لا تُقاس فقط بقدرتها على تطبيق القانون، بل بقدرتها على منع مواطنيها من الوقوع في خيارات مستحيلة أخلاقيًا وإنسانيًا. وعندما يصبح الجسد ضمانة أخيرة للدَّين، فذلك مؤشر لا على خلل فردي، بل على أزمة سياسات اقتصادية وإجتماعية تستحق وقفة نقدية جادة، لا حكمًا قضائيًا وحسب. .