ليس توصيفًا إنشائيًا أن نقول إن الشرق الأوسط القديم قد مات. مات بهدوءٍ ثقيل، بلا مشروع يُورَّث، ولا رؤية تُنقذ ما تبقى. خلال اثنتين وسبعين ساعة سنغلق حسابات عام 2025، لكن المنطقة لن تُغلق حساب إخفاقها التاريخي. يدخل الشرق الأوسط عامًا جديدًا مثقلًا بالتحولات والفراغ، من إيران إلى المغرب الغربي، مرورًا بسوريا والعراق واليمن وليبيا، حيث تتشابه الأزمات وتختلف الأسماء، وحيث تبدو الدولة فكرةً معلّقة أكثر منها واقعًا راسخًا. اندلاع الاحتجاجات في إيران اليوم يكشف هشاشة نظام بات أقل قدرة مما كان عليه قبل عام، لكنه ليس جوهر الأزمة الإقليمية. فالمشكلة لم تعد محصورة في لاعب بعينه، بل في بنية إقليمية مأزومة تتآكل من الداخل، فيما ينشغل الجميع بتصدير أزماتهم بدل معالجتها. التركيز على إيران وحدها قد يحجب حقيقة أخطر: الإقليم بأكمله يعيش لحظة تفكك بطيء. في المقابل، يواصل الآخرون إعادة رسم خرائط النفوذ. توقيع إسرائيل واليونان وقبرص اتفاقًا أمنيًا يرسّخ تحالف شرق المتوسط يعكس عقلًا استراتيجيًا يعرف ما يريد. إسرائيل تطوّق المنطقة بهدوء الاتفاقات لا بضجيج الشعارات، بينما تبدو العواصم العربية غارقة في صراعاتها الداخلية، أو أسيرة خوفها من مجتمعاتها، وكأن أمن النظم بات أهم من أمن الأوطان. الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ليس تفصيلًا هامشيًا، بل حلقة في إعادة تشكيل القرن الإفريقي، حيث باتت الموانئ والممرات البحرية جوهر الصراع. ومع هذا التحول، تبرز مطامح إثيوبيا ومشاريعها المتسارعة في القرن الإفريقي، من المياه إلى الموانئ إلى النفوذ الجيوسياسي. إثيوبيا تخطط بثقة دولة تعرف ما تريد، فيما العرب يتركون هذا المجال الحيوي فراغًا مفتوحًا للتدخلات. الشرق الأوسط القديم ينهار، لكن الحقيقة المؤلمة أن العرب ساهموا في هذا الانهيار. غاب المشروع النهضوي العربي، فتفككت الأولويات، وتحولت السياسة إلى إدارة أزمات، والدولة إلى عبء، والهوية إلى أداة صراع. في هذا الفراغ، تمددت مشاريع الآخرين، أكثر تنظيمًا وصبرًا، بينما اكتفى العرب بردود الفعل. الخطر الأكبر يتجسد اليوم في سوريا. ما يجري هناك لم يعد مجرد أزمة داخلية، بل نموذجًا مرشحًا للتعميم. الخشية أن تكون سوريا بداية سايكس – بيكو جديد، لا يُعلن باتفاقات رسمية، بل يُفرض عبر الوقائع، ومناطق النفوذ، وتعدد السلطات. فإذا ترسّخ هذا النموذج، فقد يمتد إلى دول عربية أخرى أنهكها الانقسام. في هذا المشهد، تعيد تركيا تثبيت نفوذها بأدوات متنوعة، بينما يبرز الدور القطري عبر دبلوماسية الوساطة والحضور السياسي، كاستثناء نسبي في مشهد عربي يتسم بالغياب. قد يُختلف حول هذا الدور، لكنه يعكس وعيًا بأن الفراغ الاستراتيجي أخطر من الخطأ المحسوب. في المقابل، تواصل إسرائيل بناء علاقات مع الأقليات، وتحويلها إلى أدوات ضغط، واستنزاف الدول العربية من سوريا إلى لبنان واليمن وأرض الصومال والسودان، عبر سياسات طويلة النفس لا تعتمد على الحرب المباشرة بقدر اعتمادها على تفكيك الداخل. ولا يمكن فصل هذا كله عن إخفاق النظم السياسية العربية، التي أغلقت المجال العام، وأضعفت المؤسسات، وأسهمت في تراجع الديمقراطية عربيًا، في وقت تشهد فيه الديمقراطية عالميًا أزمة ثقة وتراجعًا واضحًا. غير أن العالم يناقش أزمته، بينما ما زال العرب يهربون من الاعتراف بأزمتهم. الشرق الأوسط القديم مات، لكن المأساة ليست في موته، بل في أننا لم نُحضّر لما بعده. وبين حزن الواقع وسخرية التاريخ، يبقى السؤال: هل نملك الشجاعة لصناعة مستقبلنا، أم سنكتفي بدور الشاهد الحزين على زمنٍ ضيّعناه بأيدينا؟ سنة جديدة سعيدة… إن كان في الخسارة ما يكفي لنتعلم. .