ماذا تريد إسرائيل؟ سؤال تحاول إسرائيل الإجابة عنه بكشف حقيقتها العدوانية.. وأصولها العنصرية ومرجعيتها غير الأخلاقية. هي تزعم، وبالأحرى زعماؤها، أنها خاضت حرباً على سبع جبهات، خلال العامين الماضيين، وانتصرت فيها جميعاً، ولم يعد هناك أي مبرر سياسي أو قانوني أو أخلاقي يمنعها من أن تخفي حقيقتها العدوانية.. وسقوطها الأخلاقي وتاريخية عنصريتها البغيضة. لم يعد يعنيها القول إنها دولة عنصرية.. ولم يعد يزعجها القول إنها دولة مارقة.. ولم يعد يهمها القول إنها دولة توسعية، ولم يعد يعنيها اتهام ساستها وجنرالاتها، وأنهم مطلوبون للعدالة الدولية، بوصفهم مجرمي حربٍ ارتكبوا وما زالوا يرتكبون جرائم إبادة جماعية، ولا حتى يخجلون من ذلك.إسرائيل في حقيقة الأمر، بعد حربٍ عدوانية توسعية ضروس خاضتها، طوال السنتين الأخيرتين، لم تعد إسرائيل كما كانت قبل السابع من أكتوبر 2022، حين كادت أن تُتوّج قوة إقليمية مهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، بفرض صيغة «السلام الإبراهيمي». حينها، كانت إسرائيل تتمتع بردع إستراتيجي، لا تملك أي قوة إقليمية في المنطقة أو في العالم تحدي واقعه المهيمن. حينها كان العالم، على استحياء يعبّر عن رفضه واستهجانه لممارسات إسرائيل العدوانية والتوسعية، دون أي فعل ملموس لمقاومة أو ردع تلك الممارسات. حينها كان العالم الغربي، من غرب جبال الأورال وحتى غرب العالم الجديد، أسيراً لرواية «دراما» مظلوميات إسرائيل الإنسانية، وعلى رقبته سيف عقدة العداء للسامية. حينها كان الغرب، سياسياً وأخلاقياً، مستعداً لدفع الثمن السياسي والأخلاقي والحضاري، لتأييد دولة عنصرية مفرطة في عدوانيتها، دون نقاش أو تحفّظ، بل ولا إحراج أو خجل.الأمر تغيّر بعد السابع من أكتوبر 2022. عندها ثبت للعالم، بالذات للمنطقة، أن إستراتيجية الردع الإسرائيلية، ليست سوى نمرٍ من ورق مزّقته فصائل فلسطينية خرجت من أكثر بقاع العالم اكتظاظاً بالسكان، وأهلها محاصرون جوعى، لا يملكون من موارد القوة، سوى عزيمتهم الصلبة المصرة على الانعتاق من ربقة احتلال استيطاني غاشم.أخلاقياً وسياسياً، ضربت تلك الحرب العدوانية العنصرية الوحشية، العالم بزلزال عنيف استمرت توابعه لعامين كاملين، حتى وصل دماره السياسي والأخلاقي، دولاً كبرى، كانت وما زالت إسرائيل تقتات على عونها السياسي وسندها القانوني وأودها الاقتصادي، لتكريس وجودها العدواني العنصري ضد (الشعب الفلسطيني). حتى الدعم اللامحدود الذي يُعد أنبوب الحياة الصناعي لبقاء إسرائيل واستمرارها بدا وأن وقوده من «الأكسجين» ينفد، حتى كادت إسرائيل تهلك، اختناقاً، من داخلها.ليس هذا فحسب، لكن مجتمعات الغرب بدأت تصحو من «كابوس» مظلومية اليهود وعقدة السامية، ليس بالضرورة على مستوى النخب السياسية، في تلك المجتمعات، بل الأخطر: على مستوى القاعدة الجماهيرية، خاصةً فئة الشباب، بانتماءاتهم التعدّدية المختلفة. طوال سنتين من الحرب العدوانية على غزة ومسيّرات جماهيرية حاشدة تجوب شوارع مجتمعات الغرب، تنادي: الحرية للشعب الفلسطيني والتنديد بالحرب العدوانية، التي تهوي لقاع ارتكاب جرائم إبادة جماعية لشعبٍ مشكلته الأساسية أنه يسعى لتحرّره الوطني، ويطالب: أن تكون له دولة مستقلة ذات سيادة على أرضه، ليمارس عليها حقه الطبيعي غير القابل للتصرّف في تقرير مصيره.هذا الحراك الجماهيري، الذي جاب شوارع الغرب واقتحم مؤسسات الحكم فيها من لندن إلى واشنطن وبرلين، مروراً بسيدني وباريس ولوس أنجلوس وطوكيو وسيول وأوكلاند، وإن كان أثره السياسي في النخب السياسية (الحاكمة والمعارضة)، لم يكن مباشراً، إلا أنه ظهر أثره السلبي في الانتخابات التي جرت خلال تلك السنتين، في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والعديد من الدول الأوروبية. ما كان لهذا التغيير أن يحدث، لولا هذا الصدى المدوي، الذي أحدثته الحرب العدوانية على غزة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة.لكن الأثر الأقوى، الذي أخذ يَنْفِذُ إلى وجدان تلك الشعوب ليتسلل ببطء إلى ضمير وسلوك مؤسسات الحكم فيها، هو ذلك التحوّل على المستوى الثقافي والسياسي والإعلامي والأخلاقي والأكاديمي، الذي بدأ يظهر على مستوى قادة الرأي ورموز الإعلام ومؤسسات الصحافة ودور الفن وبيوت الأدب وقلاع العِلم، حيث أخذوا يتساءلون عن حكمة استمرار دعم كيان مارق، يرتكب من جرائم الحرب ما يندى له جبين أحرار العالم وضمير الإنسانية. بل يتساءلون عن الفائدة في دعم دولة مارقة (إسرائيل) من أموال دافعي الضرائب في تلك المجتمعات، مُلْحِقاًَ العار والخزي بالحضارة الغربية.إسرائيل، خسرت في عامين، ما استثمرت فيه طوال ثمانية عقود. لم يعد رادعها الإستراتيجي، بتلك الفاعلية والكفاءة في تحقيق الأمن لها، ولا حتى ضمانة لوجودها. كما لم يعد لذلك الدعم المادي والسياسي من قبل مجتمعات الغرب، وثمنه الاقتصادي والأخلاقي الباهظ، أي عائد إستراتيجي مجدٍ متوقع.إسرائيل لم تعد هي إسرائيل التي كانت قبل السابع من أكتوبر 2022. أضحت الدولة العبرية، عارية تماماً من درع إستراتيجية واقية.. ومن دعم عالمي سخي.. ومن أي بعد أخلاقي، يبرر وجودها. الأخطر: عودة مركّزة لحالة العداء للسامية، ربما تفوق تلك التي عانى منها اليهود في المجتمعات الغربية، عرفت بالمسألة اليهودية، فترة ما بين الحربَيْن العظمَيَيْن، القرن الماضي.