حوكمة الأحزاب السياسية: من التنظيم الداخلي إلى بناء الثقة العامة

لم تعد الأحزاب السياسية في العصر الحديث مجرد أدوات انتخابية أو منصات خطابية تتنافس على السلطة، بل أصبحت مؤسسات سياسية يُفترض أن تُدار وفق معايير الحوكمة الرشيدة، تمامًا كما تُدار الدول والمؤسسات الكبرى، فنجاح أي نظام ديمقراطي لا يُقاس فقط بنزاهة الانتخابات، بل بمدى نضج الأحزاب السياسية وقدرتها على ممارسة الحكم الرشيد داخل بنيتها التنظيمية قبل المطالبة بتطبيقه على مستوى الدولة، فالحزب السياسي ليس مجرد إطار تنظيمي، بل مؤسسة وطنية يُفترض أن تعكس القيم التي تطمح الدولة إلى ترسيخها. ومن هنا، تصبح حوكمة الأحزاب اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية القوى السياسية في الانتقال من الخطاب إلى الممارسة، ومن العمل الفردي إلى العمل المؤسسي. وتعني حوكمة الأحزاب السياسية، في جوهرها، تعني تنظيم العلاقة بين القيادة والقاعدة الحزبية على أسس واضحة، تضمن المشاركة الفاعلة، والتداول القيادي، واحترام النظام الداخلي باعتباره المرجعية العليا، وهي تشمل، بالضرورة، وضوح آليات اتخاذ القرار، ونزاهة الانتخابات الداخلية، والإفصاح المالي، وتمكين الهيئات الرقابية، بما يمنع تحوّل الحزب إلى كيان مغلق أو نخبة سياسية معزولة عن المجتمع، كما يشكّل تفعيل الهيئات الرقابية الداخلية، وعدم تسييس القرارات التنظيمية، حجر الزاوية في أي تجربة حزبية ناجحة وقابلة للاستمرار. ويكتسب موضوع الحوكمة أهمية مضاعفة في هذه المرحلة، في ظل البيئة التشريعية الجديدة التي أتاحها قانونا الأحزاب والانتخاب، والتي منحت الأحزاب فرصًا غير مسبوقة للمشاركة في الحياة البرلمانية، غير أنّ هذه الفرص، رغم أهميتها، قد تتحوّل إلى عبء إن لم تُحسن الأحزاب استثمارها عبر بناء مؤسسات داخلية قادرة على إدارة الاختلاف، وصياغة البرامج، وتمثيل قواعدها بصدق ومسؤولية، كما تشكّل مدخلًا أساسيًا لإشراك الشباب والنساء في العمل السياسي، لا من باب الكوتا الشكلية، بل من خلال خلق بيئة تنظيمية عادلة تقوم على تكافؤ الفرص، وتكسر ثقافة الإقصاء والتهميش، فالشباب الأردني يبحث عن نموذج حزبي يؤمن بالكفاءة لا بالأقدمية، وبالفكرة لا بالولاءات أو العلاقات الشخصية أو موازين القوة داخل الحزب. في المقابل، لا تقع المسؤولية على الأحزاب وحدها، بل تمتد إلى البيئة السياسية العامة، بما فيها الإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، ومراكز الدراسات، التي يُفترض أن تمارس دورها في مراقبة الأداء الحزبي، وطرح الأسئلة النقدية، والمساهمة في نشر ثقافة المساءلة والحوكمة، فالحياة السياسية الصحية لا تُبنى على الصمت أو المجاملة، بل على النقد المسؤول الذي يهدف إلى الإصلاح وتعزيز الثقة، لا إلى الهدم أو التشكيك. واليوم، تقف الأحزاب السياسية الأردنية أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن تنجح في تحويل مسار التحديث السياسي إلى فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة مع المواطن، أو أن تكرّس الصورة النمطية السلبية التي لطالما رافقت العمل الحزبي، والفيصل في ذلك لا يكمن في حجم الدعم أو عدد المقاعد، بل في مستوى الحوكمة داخل الحزب، وقدرته على أن يكون نموذجًا مصغرًا لدولة القانون والمؤسسات، فقد عانت التجربة الحزبية الأردنية، لسنوات طويلة، من ضعف الديمقراطية الداخلية، وهيمنة القيادات التاريخية، وغياب التداول القيادي، الأمر الذي انعكس سلبًا على ثقة المواطنين، ولا سيما الشباب، بالعمل الحزبي. وعليه، فإن إنجاح مشروع التحديث السياسي يبقى مرهوناً بقدرة الأحزاب على إعادة بناء ذاتها وفق معايير الحوكمة الرشيدة، لا الاكتفاء بالاستفادة من البيئة التشريعية الجديدة، خاصة في ظل مواطن يراقب المشهد السياسي بوعي ونقد، ولم يعد يمنح ثقته بسهولة، ولن ينخرط في عمل حزبي لا يرى فيه نموذجًا للنزاهة والعدالة والمشاركة. وبالمحصلة، يمكن القول إن حوكمة الأحزاب السياسية ليست خيارًا تنظيميًا فحسب، بل ضرورة وطنية وأخلاقية لضمان حياة سياسية صحية ومستدامة، فالحزب الذي يُحسن إدارة ذاته، ويؤمن بالمشاركة والمساءلة، يكون أكثر قدرة على إدارة الشأن العام، وأكثر قربًا من المواطن، وأكثر جدارة بثقته، وفي عالم تتراجع فيه الثقة بالعمل السياسي، تبقى الحوكمة الرشيدة الجسر الحقيقي بين الحزب والمجتمع، ويؤهله لتمثيل المواطنين تحت قبة البرلمان، والمساهمة بفاعلية في صياغة مستقبل سياسي أكثر نضجًا واستقرارًا للأردن. .