في أحد الحوارات الماتعة التي تم بثّها عبر «بودكاست عكاظ»، تحدّث الصحفي المتمرّس الأستاذ جميل الذيابي عن التحوّلات العميقة التي تمرّ بها المنظومة الإعلامية، وتوقّف عند مسألة «الانعتاق من الحبر» بوصفها توصيفاً مهنياً لواقع متغيّر، لا حكماً ثقافياً ولا إعلان قطيعة مع الصحافة الورقية. هذا الحديث فتح باب نقاش لافت، كان من أبرز محطاته مقال الكاتب المتميّز نجيب يماني المنشور في صحيفة «عكاظ» بتاريخ 28/12/2025، الذي عبّر فيه عن قلق ثقافي مشروع على معنى الصحافة الورقية ودورها الإنساني.وأقولها بصدق، إنني لم أجد نفسي مدفوعاً للكتابة انحيازاً لطرف على حساب آخر، ولا رداً بدافع المناكفة، بل لأنني رأيت في حديث جميل وحكمة نجيب، اللذين وُضعا في مواجهة مباشرة، بينما هما في جوهرهما ينطلقان من هاجس واحد، وهو حماية المنظومة الصحفية، كلٌّ من زاويته. فالأستاذ جميل كان يصف التحوّل كما يراه من داخل التجربة المهنية ومن موقعه التنفيذي في بلاط صاحبة الجلالة، والأستاذ نجيب كان يحاكم الأثر الثقافي لهذا التحوّل بقلق العاشق للقلم وهو أمر مفهوم. ومن هذه المسافة بين التوصيف المهني والقلق الثقافي، لم أرَ في الأمر سجالاً بقدر ما لمست اختلاف زوايا يستحق قراءة أخف وطأة.فحين تحدث جميل الذيابي عن الحبر، لم يكن بصدد إطلاق بيان ضد الماضي، ولا إعلان نهاية زمن، بل كان يجيب عن سؤال مباشر في سياق مهني واضح. قال إن العالم تغيّر، وإننا أمام موجة وعواصف وزلزال في المادة الإعلامية والصحفية، وإن الخيارات باتت محدودة؛ إما أن تتغيّر وتتماشى مع متغيّرات الزمن، أو يأتي الطوفان ويجرفك. ثم أكّد، بوضوح لا لبس فيه، أن الحضور يجب أن يكون في الورقي، والإلكتروني، والمرئي، بما يتوافق مع مجريات هذا التحوّل المتسارع.من هنا، لا يبدو أنه كان في وداع الحبر، بل في مواجهة الطوفان. و لم يتحدث بلسان شاعر يحنّ إلى الماضي أو يتنكر له، بل بلسان مهني يرى التحوّل بعين التجربة لا بعين الحنين. فمواجهة الطوفان لا تعني تهميش السفن القديمة، ولا التبرؤ من خبرة صنعت أسماء وذاكرة، بل تعني إدراك أن الإبحار اليوم يحتاج الى خرائط جديدة وبوصلة أدق، وأن الجمود في لحظة التحوّل قد يكون أكثر خطورة من التغيير نفسه.أما الانعتاق الذي قصده فلم يكن انعتاقاً من الذاكرة، ولا تمرّداً على تاريخ المهنة، بل تحرّر من الاكتفاء بوسيط واحد في عالم لم يعد يعترف بالأحادية. فالحبر، في حديثه، لم يكن عبئاً ولا قيمة منتهية، بل جزء من منظومة أوسع لم يعد من الممكن أن تعمل بذات الأدوات القديمة وحدها. ومن الخطأ أن يُقرأ هذا التحوّل بوصفه إنكاراً لقيمة الورق، فيما هو في جوهره إقرار بأن الذاكرة وحدها لا تكفي إن لم تُصاحبها قدرة على الوصول، والتأثير، والاستمرار.وفي المقابل، قرأ الزميل نجيب هذا التوصيف بقلق ثقافي مفهوم. فلم يعترض على التغيير في ذاته، بل على ما قد يترتّب عليه من تسطيح للمعنى، وتحوّل الصحافة من فعل إنساني ثقيل إلى منتج سريع الاستهلاك. هذا القلق ليس موقفاً عاطفياً ولا رفضاً للتقنية، بل دفاع عن جوهر المهنة في زمن تُغري فيه السرعة بإهمال العمق.ومن هنا يتشكّل جوهر الاختلاف؛ فجميل يصف التحوّل كما يراه من داخل التجربة المهنية، ونجيب يحاكم أثره الثقافي كما يتصوّره على المدى البعيد. الفرق بين التوصيف والحكم ليس تفصيلاً لغوياً، بل اختلاف في زاوية النظر. الأول يُمسك بالواقع كما هو، والثاني يتوجّس مما قد يؤول إليه. وبين الزاويتين مساحة نقاش صحي، لا تستدعي الاستنفار بقدر ما تستدعي التوازن.لذا، فالحبر، في نهاية المطاف، كان ولا يزال شامخاً، شاهداً على المعنى؛ رافق القرطاس، ثم مضى مع القلم وورق الصحف، ووجد طريقه كلما كُتبت الكلمة وسُجّل المعنى. لا يغار من التقنية، ولا يخشاها، ولم يطلب وفاءً أبدياً. يظهر حين يُستدعى، ويغيب حين تقتضي الحاجة، من دون ضجيج.وهكذا، ليس النقاش حول الحبر نقاشاً عن الماضي أو المستقبل، بقدر ما هو نقاش عن وعي اللحظة. عن صحافة تعرف كيف تتغيّر دون أن تنسى، وكيف تُجدّد أدواتها دون أن تُفرغ رسالتها. وهذا، في النهاية، هو الرهان الحقيقي الذي يجمع جميل ونجيب، حتى وإن اختلفت زاوية النظر.