مع إعلان كتائب "القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، استشهاد محمد السنوار، الذي تولّى منصب رئيس أركانها خلال الحرب على قطاع غزة خلفًا للشهيد محمد الضيف، تتكشف فصول من سيرة قائد ظلّ متخفيًا عن الأنظار لأكثر من ثلاثة عقود، في واحدة من أطول حالات المطاردة التي خاضها الاحتلال الإسرائيلي ضد قيادات المقاومة. وخلال معركة "طوفان الأقصى" (عملية عسكرية أطلقتها القسام ردًا على الاعتداءات المتواصلة على المسجد الأقصى، والحصار المفروض على غزة، والانتهاكات بحق الفلسطينيين)، تحوّل محمد السنوار إلى المطلوب الأول لدى تل أبيب، باعتباره ثاني قائد في تاريخ "القسام" يحمل مسمى رئيس الأركان منذ انطلاق العمل المسلح عام 1987. وأعلن الاحتلال اغتياله عقب شنّ حزام ناري كثيف في محيط المستشفى الأوروبي شرق مدينة خان يونس في 13 مايو/أيار 2025. قائد بلا صورة منذ التحاقه بصفوف "القسام" عام 1992، سار السنوار، البالغ من العمر 51 عامًا، على نهج رفيق دربه الشهيد محمد الضيف في التخفي والعمل بصمت. لم يُعرف له أي ظهور علني أو إعلامي مكشوف الوجه، الأمر الذي انعكس بشكل واضح على شحّ المعلومات الاستخبارية لدى الاحتلال الإسرائيلي عنه، رغم تصنيفه ضمن أخطر العقول العسكرية في غزة. وقبل نحو عام من انطلاق "طوفان الأقصى"، اجتمع السنوار – وكان يشغل آنذاك رئاسة ركن العمليات في "القسام" – بعدد من الكتّاب السياسيين في غزة، وأطلعهم على تطورات المشهد الميداني، قائلًا بعبارة مقتضبة: "بتنا على قناعة أن إطلاق سراح الأسرى من سجون الاحتلال لن يتم إلا من خلال طرق الأبواب، وستعلمون لاحقًا ماذا أقصد". عبارة بدت غامضة حينها، لكنها كشفت معناها مع فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. الميدان أولًا تعرض السنوار خلال الحرب التي شنّتها "إسرائيل" على قطاع غزة صيف عام 2014 لمحاولة اغتيال أُصيب خلالها، ما ترك أثرًا دائمًا تمثل بانحناءة في ظهره. ومع ذلك، واصل نشاطه الميداني، وأظهرت شهادات ممن رافقوه خلال مهامه العسكرية وقوفه على أدق تفاصيل العمل القتالي، وإشرافه المباشر على تنفيذها، مع اتخاذه أعلى درجات الحيطة الأمنية. واستخدم في تنقله أساليب تمويه متعددة، من بينها قيادة سيارة قديمة لا تلفت الانتباه، أو استخدام مركبات شبيهة بسيارات النقل العام، فضلًا عن اتباع طرق متغيرة للدخول والخروج من منزله المعروف في مخيم خان يونس جنوب القطاع، خاصة خلال فترات التهدئة. هندسة "طوفان الأقصى" في إطار التحضيرات لعملية "طوفان الأقصى"، طلب السنوار من دائرة التصنيع العسكري في "القسام" إنتاج صاروخ بمديات محددة وبكميات كبيرة، دون الإفصاح عن الغاية من ذلك. لاحقًا، تبيّن أن آلاف الصواريخ التي أُنتجت استُخدمت صباح السابع من أكتوبر ضمن منظومة "رجوم"، لتوفير تغطية نارية كثيفة شملت جميع مستوطنات غلاف غزة، ومهّدت للهجوم الواسع. وتشير الشهادات إلى جرأة السنوار في السلوك الميداني، حيث كان يتردد على زيارة الحدود الشرقية مع الاحتلال، كما شارك بنفسه في المعارك التي دارت شرق خان يونس خلال التوغل البري "الإسرائيلي" في معركة "العصف المأكول" عام 2014، عندما كان قائدًا للواء خان يونس، وهي المعارك التي قُتل وأُصيب خلالها أكثر من 70 جنديًا "إسرائيليًا"، وهو العدد الأكبر الذي سقط في تلك الحرب. ملف الإمداد والعمليات النوعية في عام 2015، تولّى السنوار الإشراف على عمليات الإمداد وخطوط وصول السلاح إلى الكتائب المقاتلة، خلفًا للشهيد محمد أبو شمالة الذي اغتالته "إسرائيل" عام 2014. وخلال تلك الفترة، نسج علاقات مع جهات خارجية تتحكم بمسارات إمداد المقاومة، وتميّز بقدرته على الإقناع وإدارة التواصل. وقضى فترات طويلة داخل شبكة الأنفاق التي حفرتها المقاومة، في إطار إشرافه على الجهوزية والاستعداد لمواجهة الاحتلال. كما أشرف على عدد من العمليات النوعية، أبرزها عملية "ثقب في القلب" عام 2005، التي نفذها الاستشهادي عمر سليمان طبش، وأسفرت عن مقتل اثنين من كبار ضباط المخابرات "الإسرائيلية" وإصابة سبعة آخرين. وتولى كذلك تأمين الجندي "الإسرائيلي" جلعاد شاليط بعد أسره عام 2006، واحتفظ به مدة خمس سنوات دون أن تتمكن أجهزة الاحتلال من الوصول إليه، إضافة إلى إشرافه على التحقيق والرد العسكري عقب عملية تسلل قوة "إسرائيلية" خاصة شرق خان يونس عام 2018. عقل منظم ولغة العدو حرص محمد السنوار على إتقان اللغة العبرية، وكان متابعًا دقيقًا للشأن "الإسرائيلي"، سياسيًا وعسكريًا. وخلال مسيرته التي امتدت لأكثر من 30 عامًا، أشرف على تأسيس شبكة اتصالات داخلية خاصة بكتائب "القسام"، كأحد الدروس المستخلصة من حرب 2012، لضمان أمن الاتصال الميداني. وفي السنوات الأخيرة، أسهم في تأسيس وحدة الإدارة والتنظيم داخل الجهاز العسكري، إلى جانب هيئة ضبط الجودة في الصناعات العسكرية، في إطار سعيه لتطوير الأداء المؤسسي والعسكري للكتائب. برحيل محمد السنوار، تطوي كتائب "القسام" صفحة قائد عمل في الظل، لكن بصماته بقيت حاضرة في أخطر معارك الصراع، لتؤكد أن الرجل الذي غاب عن الصورة لعقود، كان في قلب القرار والميدان حتى لحظاته الأخيرة. (قدس برس) .