الكابتن.. علوّ بلا تعالٍ

عندما يجلس في المقدّمة ويطلّ من علوّ، فهو يتهيّأ لعلوّ أكبر.المقعد الأمامي في قمرة القيادة ميزة بصرية، نعم، لكنه قبل ذلك حالة ذهنية؛ انتقال هادئ من الأرض إلى السماء، من التفاصيل الصغيرة إلى الصورة الكبرى.تمتد أمامه لوحة العدادات كخريطةٍ مصغّرة للعالم، أرقامٌ وألوان وإشارات، هناك تبدأ رحلة الكابتن.. قبل الإقلاع.هو رجل اعتاد أن يكون وحيداً في أكثر اللحظات ازدحاماً، حارساً للوقت، ومسؤولاً عن زمنٍ معلّق بين نقطتين.يعرف أن أمامه مهام دقيقة، وخلفه ثقة ممتدة، أودعها مئات البشر في يد شخص واحد لا يعرفونه، لكنهم يسلّمونه أحلامهم ومواعيدهم بكل طمأنينة.الكابتن الذي نراه بالزي المميّز، وربطة العنق الأنيقة، وأشرطة الكتف، هو في حقيقته شخص اختار «قيود» النظام؛ لأنها تُحرّره من المفاجآت، واختار التحليق لأنه يحب «الانطلاق».في اللحظات الأولى للرحلة، وحين تُغلق الأبواب، تُفتح الذاكرة على مراحل طويلة من التدريب، من الأخطاء التي صُحّحت، ومن القرارات التي لا مجال فيها للاجتهاد.يتطلّع الكابتن إلى السماء بمسؤولية، وينظر إلى الغيم الذي نتغنّى به على أنه معادلاتٌ تحتاج لحلول.هو يعرف أن الطيران ثقة، لكنه أيضاً شكٌّ دائم، شكّ صحي لا يسمح للأمور أن تمرّ دون سؤال.حين تبدأ الطائرة بالتخفف على المدرج، يشعر بثقل القرار، فالثواني التي تسبق الإقلاع تختصر فلسفة القيادة كلها؛ إمّا المضيّ بكل يقين، أو التوقّف بلا تردّد.. لا مكان هنا لمنطقة رمادية.في الجو، يندمج القبطان مع فضاءٍ أوسع من الطائرة، ينفصل عن الأرض، لكنه لا يبتعد عنها في وعيه.المدن تحته تتحوّل إلى قطع من الكريستال اللامع، والبحار مساحات صامتة تشي بالسفن على شكل نقاط صغيرة، ومع ذلك يبقى منتبهاً للتفاصيل، السرعة، الارتفاع، الاتجاه، وصوتٌ بعيد يذكّره بأن الطريق، مهما بدا فارغاً، فهو مليء بالاحتمالات.الكابتن الجيّد لا يتكبّر؛ لأن الطيران، في مفهومه، ممارسة يومية للتواضع.حين تقترب مرحلة الهبوط، تعود الأرض إلى المشهد، الوصول إلى المطار جزء من امتحانٍ مستمر؛ سرعة الرياح، مدى الرؤية، حالة المدرج، عناصر تعيد الكابتن إلى درسٍ مكرّر، القيادة أن تُنهي الرحلة كما يجب.بعد أن تتوقّف الطائرة ويبدأ الركّاب في المغادرة، يخرجون وهم يعرفون أن رحلتهم انتهت، أمّا الكابتن، فيدرك أن فصلاً من رحلته المستمرة سيبدأ من جديد، بثقةٍ جديدة.يغادر القمرة دون أن يلتفت إليه أحد، لكنه في قرارة نفسه يعرف أن هذا أعلى درجات الحضور.الكابتن ليس بطلاً بالمعنى الرومانسي، ولا فيلسوفاً بالمعنى العلمي، لكنه يجمع بين الاثنين؛ رجل تعلّم أن العلوّ لا يعني التعالي، وأن السيطرة لا تُلغي التسليم، وأن أقوى القرارات أحياناً هي تلك التي لم تُتخذ.في عالمٍ يركض بسرعة الضوء، يقف الكابتن شاهداً على قيمة الهدوء والانضباط، وعلى أن بعض المهن تُمارَس بالعقل، وبقلبٍ يعرف أن العطاء فضاء، وأن الحدود تُحترم.حين يجلس في المقدّمة ويطلّ من علوّ على التفاصيل، لا يكون قد ارتفع بعد...لكنه، مرةً أخرى، يتهيّأ للعلوّ.