كتب زياد فرحان المجالي لم يكن المشهد تفصيلاً عابرًا. عشبٌ أخضر، مظلّات شاطئية، لغة جسد مرتاحة، وابتسامات أمام الكاميرات. في هذا الإطار التلفزيوني الهادئ، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في مار-أ-لاغو. بدا كل شيء وكأنه مصمَّم ليقول للمشاهد إن السياسة الكبرى يمكن أن تُدار بلا توتر، وإن القرارات الثقيلة يمكن أن تُناقش في أجواء صيفية. لكن هذا الإخراج البصري نفسه كان على النقيض تمامًا من الملفات التي وُضعت على الطاولة: إيران، غزة، لبنان وحزب الله، سوريا، والضفة الغربية. من تابع البث لاحظ سريعًا أن اللقاء كان قبل كل شيء حدثًا تلفزيونيًا. ليس بمعنى الاستعراض فقط، بل بمعنى أن الرسائل صيغت لتُلتقط بسهولة: عبارات واضحة، أرقام كبيرة، ووعود تُقال علنًا. ترامب تولّى زمام الحديث، أجاب عن أسئلة كثيرة، وفتح مساحة غير معتادة للصحفيين، خصوصًا الإسرائيليين منهم. نتنياهو، في المقابل، بدا أقل كلامًا وأكثر اعتمادًا على أن تُقال عنه الكلمات بدل أن يقولها بنفسه. في الإعلام السياسي، هذه معادلة معروفة: من يملك الميكروفون يملك السردية، حتى لو بقيت التفاصيل التنفيذية مؤجلة. المديح الذي أغدقه ترامب على نتنياهو شكّل العنوان الأبرز للتغطية. قال إن إسرائيل كانت ستُدمَّر لولا قيادته، وإن زمن الحرب يحتاج قائدًا قويًا. هذه العبارات ليست جديدة بالكامل، لكنها قيلت هذه المرة بوضوح أكبر، وعلى الهواء مباشرة، وفي توقيت داخلي حساس بالنسبة لإسرائيل. تلفزيونيًا، مثل هذه الجمل تتحول فورًا إلى "مواد خام”: تُقتطع، تُعاد، وتُستثمر سياسيًا. وهي، بغض النظر عن دقتها أو مبالغتها، تؤدي وظيفة واحدة مؤكدة: رفع منسوب الشعور بالإنجاز لدى جمهور مؤيد، حتى قبل أن تظهر نتائج ملموسة. غير أن السياسة لا تُقاس فقط بما يُقال، بل بما يُفهم أيضًا. وعند هذه النقطة، تبدأ علامات الاستفهام. عندما سُئل ترامب عن إيران، جاءت إجاباته حادة في ظاهرها: إذا استمر المسار النووي فالتدخل "فوري”، وإذا استمرت الصواريخ الباليستية فـ"نعم”. هكذا، وعلى الهواء، بدا وكأنه يمنح ضوءًا أخضر مبدئيًا لأي خطوة إسرائيلية. لكن القراءة الهادئة تكشف طبقتين في الكلام: طبقة ردعية إعلامية تُرفع فيها النبرة، وطبقة عملية مشروطة تترك هامشًا واسعًا للتقدير والتأجيل وربط القرار بـ"معطيات وأدلة”. الرسالة وصلت، لكن التنفيذ بقي في المنطقة الرمادية. بعد اللقاء مباشرة تقريبًا، جاء إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن صفقة كبيرة لتزويد إسرائيل بطائرات F-15 مطوّرة، مع خيار توسيع العدد لاحقًا. هذا التزام عسكري ملموس، يضيف وزنًا عمليًا لما قيل سياسيًا. في التغطية الإعلامية، بدا الأمر كأنه استكمال طبيعي للقاء، حتى وإن كانت الصفقات العسكرية تمر بمسارات مؤسساتية منفصلة. بالنسبة للمشاهد، التسلسل واضح: لقاء، دعم كلامي، ثم دعم عسكري. وهكذا تُبنى الصورة. في ملف غزة، كان الرقم هو البطل: "59 دولة” مستعدة للمشاركة في نزع سلاح حماس. رقميًا، الرقم كبير ومطمئن. تلفزيونيًا، يوحي بإجماع دولي وبأن العبء لن يقع على إسرائيل وحدها. لكن سياسيًا وتنفيذيًا، تبرز الأسئلة فورًا: من هي هذه الدول؟ أي منها مستعد فعليًا لإرسال قوات؟ وتحت أي تفويض قانوني؟ التجارب السابقة مع قوات دولية في مناطق نزاع تجعل الإجابة بعيدة عن البساطة. حتى التقارير الإسرائيلية نفسها أشارت إلى أن الفكرة ما تزال في طور الإعلان، وأن لا دولة سارعت فعليًا لتقديم قوات على الأرض. الحديث عن "اليوم التالي” في غزة جاء هو الآخر بصيغة عامة: مجلس سلام، حكومة فلسطينية تكنوقراطية، وإصلاحات عميقة تشمل التعليم والاقتصاد ووقف المدفوعات للمسلحين. هذه عناوين كبيرة، لكنها تصطدم بواقع أعقد: كيف تُفرض إصلاحات بنيوية في مجتمع مدمَّر، تحت أنقاض حرب، وفي ظل انقسام سياسي عميق؟ الزمن السياسي شيء، والزمن الاجتماعي والإنساني شيء آخر. وما يُقال في المؤتمرات لا يتحول تلقائيًا إلى إدارة يومية للمياه والكهرباء والمستشفيات. في هذا السياق، جاء تسريب موعد الإعلان عن خطة "اليوم التالي” — منتصف يناير 2026 — ليمنح الملف إطارًا زمنيًا. الإعلان عن موعد بحد ذاته أداة ضغط سياسية وإعلامية، لكنه لا يحل معضلة التنفيذ. التاريخ قد يحرّك النقاش، لكنه لا يبني شرعية ولا يخلق قبولًا محليًا أو إقليميًا تلقائيًا. أما تركيا، فكانت نقطة الاحتكاك الأكثر حساسية. حين سُئل ترامب عن الرئيس رجب طيب أردوغان، جاءت الإجابة ودّية إلى حد الإرباك بالنسبة لإسرائيل: "صديقي… لا مشكلة”، مع تلميح لإمكانية بيع طائرات F-35 لأنقرة. هذه اللغة تهدف، على الأرجح، إلى تهدئة كل الأطراف وإبقاء واشنطن في موقع الموازن. لكنها تثير في الوقت نفسه قلقًا إسرائيليًا مشروعًا، لأن تركيا لاعب إقليمي مؤثر، ووجودها المحتمل في ترتيبات ما بعد الحرب في غزة أو في شرق المتوسط يغيّر الحسابات الأمنية. في الضفة الغربية، اعترف ترامب علنًا بوجود خلافات، ثم وعد بالتوصل إلى تفاهمات. هذه صيغة دبلوماسية كلاسيكية: الاعتراف بالخلاف دون تضخيمه، وتأجيل الحل إلى مرحلة لاحقة. لكنها تترك الملف مفتوحًا على كل الاحتمالات، لأن أي تغيير في الضفة ينعكس فورًا على الأمن والسياسة والعلاقات الإقليمية. كل ذلك يجري على الشاشات، فيما الواقع الإنساني يسير بإيقاع مختلف تمامًا. ففي غزة، وفي مناطق النزاع المحيطة، يحل الشتاء بثقله: برد قارس، أمطار، خيام لا تقي، وبنية تحتية منهكة. بالنسبة للناس هناك، لا تعنيهم كثيرًا صياغات "المرحلة ب” ولا أرقام الدول المشاركة، بقدر ما تعنيهم أسئلة أبسط وأكثر قسوة: هل ستصل المساعدات؟ هل سيُعاد فتح المعابر بانتظام؟ هل ستتوفر مواد التدفئة والدواء؟ حتى داخل إسرائيل، لا تُترجم الصورة التلفزيونية وحدها إلى استقرار نفسي أو سياسي. ملف الأسرى، والانقسام الداخلي حول إدارة الحرب، وتكلفة الاستنزاف المستمر، كلها أسئلة لا تجيب عنها المجاملات ولا الصفقات وحدها. الدعم الأميركي مهم، لكنه لا يلغي الحاجة إلى قرارات داخلية صعبة. إقليميًا، ينعكس الغموض على دول الجوار. أي تأخير في بلورة "اليوم التالي” يضغط على مصر والأردن ولبنان، اقتصاديًا وأمنيًا، ويزيد حساسية الشارع في زمن برد ومطر ومعاناة. هنا يتسع الفارق بين لغة السياسة العالية ولغة الحياة اليومية. في المحصلة، خرج اللقاء بصورة ودّية ومكاسب إعلامية واضحة، خصوصًا لنتنياهو. لكن ما أُخذ تلفزيونيًا أكثر مما أُعطي عمليًا حتى الآن. علامات التعجب ملأت الشاشات، فيما بقيت علامات الاستفهام معلّقة فوق الأرض الباردة والرطبة. السياسة قد تنتظر، والخطط قد تُعلن لاحقًا، لكن الشتاء لا ينتظر أحدًا. وبين هذه الفجوة بالضبط، يُقاس الفرق بين خطابٍ ناجح على الهواء، وواقعٍ لا يزال يبحث عن دفءٍ وأمان. .