دولة تخاف من الشتاء حين تعجز الدولة وتنجح القرية

لم يكن المطر في الذاكرة الأردنية مجرّد حالة طقس، بل كان رمز حياة وأملاً جماعياً يتشارك فيه الفلاح والبدوي وأهل القرى. كان فصل الشتاء يُستقبل بالفرح والترقّب، لأنه موسم الخير وامتلاء الآبار وبداية دورة جديدة من العطاء، لا موسم الخوف والقلق كما هو حاله اليوم. في البعد الاجتماعي والتراثي، شكّل الشتاء مساحة للتكافل والدفء الإنساني؛ سهرات عائلية، ومضافات عامرة، و«لزبات» ارتبطت بأكلات شعبية وألعاب وأهازيج تتغنّى بماء السماء. وكان حصاد المياه يتم بوسائل بسيطة لكنها فعّالة، من مزاريب المنازل وشوارع القرى التي كانت تقود مياهها إلى بئر مركزي، يمثّل شريان حياة للقرية بأكملها. ذلك البئر لم يكن مجرد خزان ماء، بل نموذجاً عملياً للتشاركية المجتمعية. وكانت النساء يحملن المياه على رؤوسهن بتوازن لافت، لمسافات طويلة، في مشهد يعكس قدرة المجتمع على إدارة موارده بإمكانات متواضعة وإرادة واعية، دون ضجيج أو ادّعاء. اليوم، وعلى النقيض تماماً، تحوّل فصل الشتاء إلى مصدر قلق يومي للمواطن الأردني. مع كل منخفض جوي، تتكرّر مشاهد الفيضانات، وانهيار المنازل، وجرف الطرق، وخسارة الممتلكات، وأحياناً الأرواح. بنية تحتية متهالكة، وتخطيط غائب، وإدارة أزمة لا تتعلّم من التجربة ولا تحاسب على التقصير. المفارقة المؤلمة أن القرية الأردنية في الماضي كانت مكتفية ذاتياً بالمياه والغذاء، بينما تعجز الدولة اليوم، بكل مؤسساتها وخططها، عن تأمين الحد الأدنى من الأمن المائي والغذائي. ما كان يُنتج محلياً بالأمس، بات اليوم يستورد عبر البواخر والطائرات، في وقت يتحمّل فيه المواطن عبء مديونية متراكمة باسم الدولة، دون أن يلمس تحسناً في الخدمات أو البنية الأساسية. إن تحويل المطر من نعمة إلى نقمة ليس قدراً طبيعياً، بل نتيجة مباشرة لسياسات فاشلة، وانفصال واضح عن فهم المجتمع واحتياجاته، وتجاهل لتجارب محلية أثبتت قدرتها على الصمود والاكتفاء. الشتاء ليس عدواً، والمطر ليس كارثة. الكارثة الحقيقية تكمن في إدارة لا ترى في التجربة الشعبية درساً، ولا في التراث نموذجاً، ولا في المواطن شريكاً. وبين ذاكرة كانت تعرف كيف تفرح بالمطر، وواقع يخشاه الناس، سؤال مفتوح: متى تعود النعمة نعمة؟ إن ما نعيشه اليوم ليس أزمة مطر، بل أزمة قرار. فالأمن المائي والغذائي لم يعد ترفاً ولا شعاراً للاستهلاك الإعلامي، بل شرطاً أساسياً للاستقرار السياسي والاقتصادي. دولة تعجز عن حصاد مياهها، وتعتمد على الخارج في غذائها، هي دولة تضع سيادتها الاقتصادية على المحك، وتحمّل مواطنيها كلفة فشل لم يشاركوا في صناعته. المديونية المتراكمة، وغياب التخطيط طويل الأمد، والاستثمار في حلول مؤقتة بدل بنى تحتية مستدامة، كلها مؤشرات على خلل عميق في إدارة الموارد. المطلوب اليوم ليس خطابات ولا لجاناً جديدة، بل إعادة تعريف للأولويات: حصاد مائي وطني حقيقي، دعم الإنتاج المحلي، ومحاسبة واضحة لكل من حوّل النعمة إلى عبء. فالمطر سيستمر بالنزول، لكن السؤال السياسي والاقتصادي الجوهري يبقى: هل سنبقى دولة تخاف من الشتاء، أم دولة تعرف كيف تحوّل المطر إلى سيادة وأمان واستقرار؟ .